صفوت البياضي
تعبيرات نرددها نحن الناطقين بالعربية، وربما لم نتوقف عندها طويلًا فى معناها ومغزاها، فالشمس لا تختفى حتى وإن غابت عن منطقة إنما لتشرق فى ذات الوقت على منطقة أخرى من العالم. كما أن القمر لا يختفى حتى استخدمنا فى أدبياتنا عبارة شهيرة «وهل يخفى القمر؟» فالشمس والقمر لا يغيبان بل يغيبان عن رؤيتنا ليظهرا فى جزء آخر من العالم.
أما الحكمة الربانية من الشروق والغروب فإنما ليتذكر الإنسان أنه كائن متفرد عن سائر الخليقة من جماد أو طير أو حيوان، فكل المخلوقات جعلت لخدمة الإنسان وليس العكس.
أما عقيدة الحياة والخلود فأول من عرفها هو الإنسان المصرى القديم، وذلك قبل أن تعرفه الديانات التى أطلقنا عليها أوصافًا كالشرقية والربانية، ومن مصر منفردة عرف الإنسان القديم قبل الديانات الإبراهيمية، نسبة إلى خليله إبراهيم، فمن قبله بزمان عرف المصرى بانى الأهرامات أن حياته خالدة، وأنه سيقف يومًا أمام الديان ليحاسب عن أفعاله وعن تقواه بميزان دقيق لا تغيب عنه شاردة أو واردة.
وقد يختلف البشر فى ألوانهم، ولكن الكل يعود إلى الأصل أنه إنسان خلقه الخالق لكل الأكوان، وعليه أن يطوع باقى المخلوقات لخدمة ذلك المخلوق المتفرد والذى هو الإنسان.
لكن الإنسان منذ بدء الخليقة تميز بخاصيتين دون سائر الخليقة حتى ميزه الخالق عن الملائكة الذين جعلهم لخدمة الناس لا ليُعْبَدوا ولكن ليخدموهم.
والإنسان الذى ميزه الخالق بأنه يشترك مع الحيوان فى الرغبة والشهوة، فهو يجوع ويعطش ويعرف ماذا ومتى يأكل ومتى يسير إلى الماء ليشرب، بعكس الملائكة فإنهم أرواح خادمة لا تجوع ولا تعطش وتتلقى الأوامر فتنفذ.
ولكن ويا أسفاه، فبدلًا أن يعيش الإنسان مع أخيه الإنسان، عرف كيف يتخلص من أخيه الإنسان، فكانت أول حادثة قتل فى التاريخ البشرى عندما قتل قابيل أخاه هابيل. ومن هذه الحادثة تتكرر جرائم القتل وسفك الدماء إن بحق أو ظلم وعدوان. أما المؤلم أنه ظهر من يبرر قتل الآخر- مع التوسع فى فهم من هو الآخر- حتى قتل الأخ أخاه، والأم الحنون ابنها.
وهكذا فعل الأبناء بإخوتهم بل بوالديهم. وَمِمَّا يزيد الأمر ألما أن القتلة يجدون لأنفسهم التبريرات لما يفعلون، ويحولون الجرائم ومرتكبيها إلى جهاد وواجب يكافأون عليه يوم الحساب. ومن هذا المفهوم ظهر تبرير قتل النفس بذاتها فيما يعرف بالانتحار. والدارس الفطن من يقرأ النصوص التى يتشدقون أنهم حفظوها وتعلموها، فهم لا يبالون بنصوص واضحة تمنع قتل النفس عمدًا بذات يدها، فهناك منذ ألفى عام واحد من تلاميذ المسيح الذى مضى وشنق نفسه بعد أن باع معلمه لرؤساء اليهود مقابل بضعة دراهم من الفضة، وبعد أن أدى ما اتفق أن يفعله مضى وشنق نفسه بعد أن نفذ فعلته، ويسجل الوحى أن آخرين من التلاميذ سقطوا فى الخطأ بالكذب والإنكار حتى ينجوا بحياتهم، ولكنهم ندموا وتابوا عما فعلوا.
ولدى إخوتى فى الإنسانية وشركائى فى المواطنة نص قرآنى صريح يحرم ويجرم قتل النفس «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما».. سورة النساء ٢٩.. فالنفس هى ملك لخالقها وليس لإنسان حتى يقتلها حتى لو زعم القاتل أنه يفعل هذا فى سبيل الله.
والمتتبع للتاريخ يجد نهاية لكل إنسان، ونهاية القاتل إما قتله وإن نجا فعند الخالق الحساب.. وقد يسأل القارئ ما حكم القاتل دفاعًا عن الوطن أو دفاعًا عن النفس، وفى ذلك فى نظرنا أمران، الأول هو الدفاع عن الأوطان وليس اعتداء على أوطان الغير بأى حجة كانت، فالدفاع عن الأرض والعرض مكفول بحكم القانون، ومسئوليته تقع على الحاكم الذى بيده القرار فى الحرب أو فى السلم، وعلينا الطاعة من أجل تحقيق السلام وليس بالعدوان، وكذلك الدفاع عن النفس إذا لم تكن وسيلة أخرى لتسليم المعتدى إلى السلطات المختصة.
وماذا عن قتل النفس بذاتها فيما يعرف بالانتحار- وها هى أرقام المنتحرين ومن حاولوا الانتحار تفوق كل تصور- ومنهم المشاهير، ولعل من أبرزهم كانت الملكة كليوباترا التى بإرادتها دعت حية سامة تلدغها قبل أن تقع الملكة فى أسر القائد الرومانى، وفى التاريخ الحديث فعل هتلر ذات الشىء ولذات السبب، حيث انتحر مع صديقته إيفا براون، وديندار شاه ولى عهد مملكة نيبال الذى أطلق النار على جميع أفراد أسرته ثم على نفسه، وقيل عن المشير عبدالحكيم عامر إنه فعل ذات الشىء.
ومن مشاهير المنتحرين الروائى الأمريكى أرنست همنجواى، الحائز على جائزة نوبل للآداب، وعندما باغته المرض وأصيب بالعجز أطلق على نفسه النار، والكاتب الروائى الأمريكى مؤلف كتاب «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر فى الناس» وكتاب «دع القلق وابدأ الحياة»، ديل كارنيجى.
وماذا عن فان جوخ، الفنان الهولندى الشهير الذى تباع لوحاته بالملايين، وآخرها «زهور عباد الشمس» التى بيعت بعد انتحاره بستين مليون دولار، فقد أطلق على نفسه الرصاص فى ٢٩ يوليو عام ١٨٩٠، ليموت بعد الحادث بيومين. أما المغنية الشهيرة «داليدا» فقد كتبت عبارة «الحياة لا تحتمل سامحونى»، ثم أنهت حياتها بيدها عام ١٩٨٧، ومن قبلها مارلين مونرو النجمة الأمريكية الشهيرة التى أصيبت بالقلق والاكتئاب ثم انتحرت. والقائمة تطول بما لا يسعه المقال.
لكن وقبل الختام أوجه ندائى إلى الذين يدعون أنهم غضبهم من النظام أو السلطة أو الأوضاع غير المرضى عنها، هل قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم، تنتهكون ديارهم أو دور عبادتهم، وبدون ذنب اقترفوه، فأى تبرير لكم حتى تفعلوا هذا؟ وبأى وجه تلاقون ديان الأرض كلها، ألا من ضمير يحرك النخوة للإنسان الذى سيقف أمام الديان الأعظم حيث لا مهرب منه، فأمامه يعطى كل إنسان حساب ما فعل، سوف لا تصمت الدماء، وإن صمتت الأصوات فستبقى دماء الأطفال والنساء تصرخ لتدين المعتدين والمحرضين والمقصرين، وإن سكتنا سكوتًا فإنما لتتكلم السماء.
نقلا عن الدستور