سحر الجعارة
(شو هالحكى مين قال دخلك مين.. العيد لا إلـــــنا.. ما الأسر قاتلنا.. والحظ هاملنا).. فى كل ليلة عيد تهزنى تلك الكلمات، تسرقنى من لحن يرتفع من كل النوافذ بصوت السيدة «أم كلثوم»: (يا ليلة العيد آنستينا).. لتهمس «جوليا بطرس» بحزنها الدفين فى أذنى وتهز وجدانى، لأرى صورا متتابعة لأوطان تحولت إلى أطلال تسكنها الغربان وينعق فيها البوم.. وتتكرر فيها مآسى الفقر التى عانتها «جوليا» فى طفولتها: (كنت أشتهى أنا وأختى المنقوشة فى ملعب «مدرسة راهبات الورديّة»، لم يكن وضع أهلى يسمح لنا بشراء منقوشة كل يوم. كان يوم الربع ليرة يوم عيد بالنسبة إلينا).. ربما لهذا أصبحت الأعياد مكسوة بالحزن ومغلفة بالأسى بالنسبة إليها، وربما كانت أحبالها الصوتية لا تزال مشدودة لأطفال حُرموا من بهجة العيد وكسر الفقر أعناقهم، وشردتهم الحروب من بلدة لأخرى وسرقت منهم أعيادهم: (ما العيد ما بيمرق عالمساكين.. العيد يبقى بعيد ويضل ناسينا.. شو لنا بالعيد ولا شىء بيعنينا.. مساكين نحنا مساكين عشنا).
ملايين الأصوات التى غنت ورددت مع «أيقونة الثورة والحرية»: «وين الملايين» و«غابت شمس الحق».. لا تعوضها عن تلك الطفولة البائسة، لا تعيد لها لحظة الفقد وهى تغنى ليبقى الأحباب بالديار حين قرر زوجها، (حبيبها آنذاك أن يهاجر من بيروت)، فى هذه اللحظة البعيدة تعلم صوتها كيف يتقن لغة الحب: (كنت أؤدى أغنية الحب «عَ المسطرة» حتّى جاءت «وين مسافر» وعرفت كيف أغنى بحنان.. غنيتها لإلياس «أبى صعب» زوجى، وكان سافر إلى لندن.. وغنيتها أيضًا لجيراننا الذين قرروا الهجرة إلى كندا).. ونجحت «جوليا» فى استعادة الأحباب بشجن صوتها المجروح: (وين مسافر أوعى تسافر آخر مرة بقول لك هيك.. تصور إنه تكون الليلة آخر ليلة بتسهر هون، وان الوردة اللى لونتها آخر مرة يكون لها لون.. يا هل الضايع مين اللى قال لك انو منوهون الكون).. ومن هنا أصبحت «جوليا» شريكة فى كل قصص الحب نستدعيها مع الإحساس بالوجع أو بالفرح.. نصرخ بصوتها: (أنا بتنفس حرية لا تقطع عنى الهوا.. لا تزيدها كتير على أحسن ما نوقع سوا.. ما بتقدر أبدا تلغينى بدك تسمعنى وتحكينى.. وإذا فكرك عم بتداوينى مش هيدا هوا الدوا).
لم تعد بنت السبعة عشر عاما، التى حاكت لها أمها (تنورة وسترة بلون كاكى) لتغنى بها، تتصور أن العالم سوف يشتعل غضبا بأغنيتها، وأن العالم سيرى بعينها مشاهد المجزرة الإسرائيلية فى الزرارية (1985).. وأنها سوف تصبح يوما ما نجمة شهيرة تجرى خلف صوتها الملايين، وتلاحقها أضواء الشهرة والنجومية.
لكنها رغم كل ما حققته من نجومية رمت العناوين.. فتقول: (الفن ليس رسالة.. بل شىء أقوم به لأنّه يشبهنى).. أما الحب بعدما نضجت بنت المقاومة وقصص الحب المستحيلة فتقول عنه: (الحب أن يكون إلى جانبى شخص قادر على أن ينظر إلى، ويرانى فى كل حالاتى سواء كنت عاقلة أو مجنونة)!.
وكأن قدر المبدع أن يمسه شىء من الجنون ليكون عاقلا جدا فى اختياراته حتى وهو يسير على الأشواك أو يعشق.. وهو يتألم أو يعانق السماء فرحا!.
لن تشعر بقيمة الثورة على الظلم والطغيان حتى فى الحب إلا إذا اختبرته وطعن قلبك بسهمه الذهبى.. لن تشعر بمعنى «الحرية» لمجرد أن صوت «جوليا» الملائكى يناديك إليها لا بد أن تجرب الأسر وتترك القيود علامات جارحة بمعصميك.. ولن تشعر بيوم العيد إلا إذا أحسست بالوحدة والتعاسة حتى إن لم تكن بداخلك بل حولك.. ساعتها فقط ستدرك مشاعر المساكين الذين تغنت لهم «جوليا»: (العيد يبقى بعيد ويضل ناسينا.. شو لنا بالعيد ولا شىء بيعنينا)!.
نقلا عن المصرى اليوم