مراد وهبة
إن تحديد البداية محكوم بآنات الزمان: الماضى والحاضر والمستقبل. والسؤال إذن: أين تقع نقطة البداية؟ أو فى صياغة أخرى: أى الآنات له الأولوية بالنسبة إلى الوعى بالزمان؟
ثمة أجوبة ثلاثة: الجواب الأول أن الأولوية للحاضر أو بالأدق للآن الدائم. والجواب الثانى أن الأولوية للماضى، والجواب الثالث أن الأولوية للزمانية الأصيلة هى للمستقبل الذى يعنى أن الإمكان سابق على الواقع.
وفى رأيى أن الأولوية فى آنات الزمان ليست للماضى لأنه، فى أصله، مستقبل فات، ومعنى ذلك أن الماضى مسلوب من سمته الأساسية وهى أنه كان مستقبلاً وأنه لم يعد كذلك. كما أن الأولوية ليست للحاضر لأنه وهم. فالحاضر نهاية ماض وبداية مستقبل. يبقى إذن أن تكون الأولوية للمستقبل، ثم تكون خبرتنا عن الزمان هى خبرتنا عن المستقبل وليس عن الحاضر أو الماضى.
والسؤال إذن:
كيف تكون لنا خبرة بما لم يحدث بعد؟
يبدو أن ثمة تناقضاً فى صياغة هذا السؤال. فالرأى الشائع أن الخبرة مكتسبة من أحداث ماضية أو حاضرة ولكنها ليست مكتسبة من أحداث فى المستقبل لم تقع بعد. فهل من سبيل إلى رفع هذا التناقض؟ الرفع ممكن إذا ارتأينا أن قدرة العقل على تكوين رؤى مستقبلية الواحدة بعد الأخرى من شأنها أن تحدث تراكماً يكون معادلاً للخبرة. واللغة تسهم فى اكتساب الخبرات المشتقة من المستقبل. فالطفل يكتسب ألفاظاً لها علاقة بالمستقبل فيما بين ثمانية عشر شهراً وثلاثين شهراً، ومن ثم يصبح المستقبل سابقاً على الحاضر أو الماضى. ومع تطور الطفل تزداد عباراته المتصلة بالمستقبل وتقل عباراته المتصلة بالماضى.
وهذا الإحساس الطاغى بالمستقبل هو الذى يميز الإنسان من الحيوان. وقد انشغل فولفجانج كوهلر بهذا التميز أثناء إجراء تجارب على ذهنية القردة. وقد انتهى منها إلى أن سلوك القردة العليا مرتبط بالحاضر ولا شىء غير الحاضر. وتأسيساً على ذلك يمكن القول إن الأولوية للمستقبل عند الإنسان.
والسؤال إذن:
ما السبب فى عدم الالتفات إلى أولوية المستقبل؟
إنه مردود إلى مبدأ العلية الذى يقسم الموجودات إلى علة ومعلول، أى إلى سابق ولاحق، لأن هذا المبدأ هو الذى يحدد العلاقة بين السابق واللاحق فيقر بأن السابق هو علة اللاحق. وتسمى العلة فى هذه الحالة بأنها علة فاعلية. ولكن العلة الفاعلية لا تفعل إلا إذا كانت لها غاية تحققها من ذلك الفعل.
الغاية إذن علة من حيث إنه لولاها لما فعل الفاعل، ولكن معنى ذلك أن العلة الغائية سابقة على العلة الفاعلية. ونزيد الأمر إيضاحاً فنقول إن الفعل ينطوى على التأثير، والتأثير ينطوى على التغيير، والتغيير ينطوى على وضع وسائل لتحقيق غاية، أى أن الفعل غائى، والغاية مطروحة فى المستقبل، ومن ثم فالفعل مستقبلى، ولأنه مستقبلى فهو رمز على السلب من حيث إنه رافض لوضع قائم، وهو رمز على الإيجاب من حيث إنه محقق لوضع قادم، أى لوضع ممكن. ومعنى ذلك أن الوضع الممكن هو علة تغيير الوضع القائم، أى أن العلة مطروحة فى المستقبل وليست مطروحة فى الماضى. ومن ثم فالعلة ذاتها هى فى مجال الإمكان، أى أنها لن تتحقق، وإنما هى فى الطريق إلى التحقق.
نقلا عن المصرى اليوم