الأنبا إرميا
يبدأ اليوم «صَوم السيدة العذراء»، ويمتد على مدار أُسبوعين حتى ينتهى بـ«عيد السيدة العذراء» فى الثانى والعشرين من أُغسطس. وحين نتحدث عن «السيدة العذراء»، فإنما نحاول أن نُبحر فى ملامح شخصية ذات محبة عميقة وإكرام جزيل فى قلوب جميع المِصريِّين مَسيحيِّيهم ومسلميهم؛ لما لها من صفات مذكورة فى «التوراة» و«الإنجيل» و«القرآن» لم تنَلها أية شخصية فى التاريخ الإنسانيّ: فهى من فاقت النساء كلهن فى الكرامة والمجد، وخاطبها رئيس الملائكة «جَبرائيل» عندما بشرها بولادة السيد المسيح منها بأنها المبارَكة فى النساء والواجدة نعمة لدى الله، وهى من قيل فيها إن الله اصطفاها على نساء العالم؛ لذٰلك لا عجب أن تمتلئ قلوب المِصريِّين جميعًا بمحبتها وأن تحظى هى بمكانة وإجلال عظيمين.
وقد رتب الآباء الرسل هٰذا الصوم وصاموه أنفسهم: فكما ذكرنا سابقًا أن «توما الرسول» تلميذ السيد المسيح لم يكُن حاضرًا وقت نياحة «السيدة العذراء» إذ كان يبشر فى «الهند»، وعند عودته شاهد ملائكة تحمل جسدها إلى السماء، وحين التقى بقية الرسل سألهم عن «السيدة العذراء» فأجابوه أنها قد تنيحت (تُوفيت). فقال لهم: «أريد أن أرى أين دفنتموها»! وعندما ذهبوا إلى القبر، لم يجدوا الجسد المبارك! وهنا بدأ «توما الرسول» يقصّ عليهم أنه رأى ملائكة تحمل جسد «السيدة العذراء» إلى السماء؛ فاشتهى الرسل أن يرَوا ذاك المنظر المقدس نفسه؛ فشرعوا يصومون وكان حينئذ الأول من شهر مسرى حتى أظهر الله لهم جسد «السيدة العذراء» فى الخامس عشَر من مسرى وتباركوا منه.
ومضات من حياة «السيدة العذراء»
حين نتأمل بعض جوانب من حياة «السيدة العذراء»، تتكشف لنا حياة قد امتلأت بفضائل كثيرة: القداسة، والوداعة، والاحتمال، والخدمة، والتواضع، وغيرها.
القداسة
عاشت «السيدة العذراء» منذ الثالثة من عمرها وهى فى الهيكل، بعيدًا عن والديها، فى حياة تخدُِم الله. وكما يذكر مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث»: «وفى الهيكل، تعلمت حياة الوَحدة والصمت، وأن تنشغل بالصلاة والتأمل. وإذ فقدت محبة والديها وحنانهما، انشغلت بمحبة الله وحده»؛ وهٰكذا امتلأت حياتها بالتسابيح والصلوات، وقراءة الكتب المقدسة، والتأمل، وأعمال البر؛ فصارت مثال القداسة، حتى إنها استحقت أن تنال نعمة لدى الله: فنجد رئيس الملائكة «جَبرائيل» يبادرها بالتحية: «السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة! الرب معكِ. مبارَكة أنتِ فى النساء.»، وفى زيارتها «للقديسة أليصابات» والدة النبيّ «يوحنا المَعمَدان» قالت لها: «مبارَكة أنتِ فى النساء، ومبارَكة هى ثمرة بطنكِ!»؛ لذٰلك لا عجب أن تنطلق كلماتها فى صلاة وتسبيح لله: «تعظِّم نفسى الرب، وتبتهج روحى بالله مخلِّصى، لأنه نظر إلى اتضاع أمته. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى...»؛ إنها حياة امتلأت بالقداسة والطهارة ومحبة الله.
الوداعة
لم نجد حياة امتلأت بالوداعة والمحبة كحياة «السيدة العذراء». والوداعة تشتمل على جميع الفضائل الأخرى: ففى الوداعة نرى التواضع، والمحبة، والخدمة، والاحتمال، والهدوء، والصمت مع البشر لٰكن قلبها كان دائم الانشغال بالصلاة لله. ومن المواقف التى نرى فيها وداعة «السيدة العذراء» خدمتها بالهيكل فى أثناء طفولتها بكل خضوع دون تذمر؛ وفى وداعتها أيضًا أجابت الملاك المبشر: «هوذا أنا أمَة الرب». وفى أثناء هَرَب «العائلة المقدسة» إلى «مِصر»، احتملت «السيدة العذراء» كثيرًا من مواقف الرفض والطرد، لٰكن فى وداعتها احتملت دون غضب أو تذمر. وحين كان يرحَّب بـ«العائلة المقدسة» فى مكان، كانت تطلب من ابنها أن يباركه فتحدث كثير من المعجزات! أيضًا نرى وداعة «السيدة العذراء» فى خدمتها: فهى التى أسرعت تسلك الطرق الوعرة حيث «أليصابات» نسيبتها إبان حبلها بـ«يوحنا المَعمَدان» من أجل خدمتها ولم تتوقف الخدمة فى حياتها قطّ.
كل عام وجميعكم بخير، فى بَدء «صوم السيدة العذراء». ونطلب إلى الله أن يبارك بلادنا، بصلوات «السيدة العذراء» التى باركت مصر. و... والحديث فى «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
* الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى