سليمان شفيق
(يؤانس، مكاريوس، يوساب، كيرلس السادس، شنودة الثالث).
البابا شنودة الثالث بطريركاً استثنائياً أعاد للكنيسة تقاليدها العلمية والروحية، وتجسدت فيه الديموقراطية الكنسية واحترام اللوائح وحق الشعب في اختيار راعيه
أسرار نفي الباباوات كيرلس الخامس وشنودة الثالث، واعتزال البابا مكاريوس، واختطاف البابا يوساب
تمر علينا السنين بعد ان رقد في الرب على رجاء القيامة فارس وقديس ومعلم وزعيم وإنسان، قداسة البابا شنودة الثالث بابا وبطريرك الكرازة المرقسية. كان الراحل العظيم مثل الحجر الكريم كلما أنعكس عليه ضوء أشاع لونا مختلفاً، فهو البطريرك المائة وسبعة عشر على كرسي مارمرقس، لكنه البطريرك العروبي الثاني بعد البابا بنيامين الذي استقبل عمرو بن العاص، ومن ثم كان ضابط احتياط حارب من أجل فلسطين كفارس، وقضى ما تبقى من عمر منذ 1948 فصاعدا مدافعاً عن عروبة القدس، حتى بلغ الأمر به بحرمان أي قبطي من زيارة القدس إلا بعد تحريرها، وقاده ذلك للصدام مع السادات وأدي به للنفي في دير الأنبا بيشوي، حتى أطلق عليه المناضل الراحل ياسر عرفات:" البابا شنودة بابا العرب"، وهكذا كان قداسة البابا أيضاً هو البابا الثاني الذي تعرض للنفي لمواقفه من الاحتلال حيث كان البابا كيرلس الخامس قد نفي من قبل الاحتلال البريطاني إلى دير البراموس بوادي النطرون قرابة العام في 1892. ويعد البابا شنودة العالم واللاهوتي هو البابا السادس الذي وصل ما انقطع من تراث لسدة البطريركية، والذي كان في عصر العلم إبان مدرسة الإسكندرية وكان هناك التزاماً عرفياً بأن يكون البطريرك من علماء مدرسة الإسكندرية القديمة، ومن مهد الضمير وحتى حرق المكتبة جلس على كرسي مارمرقس خمسة بطاركة من أساتذة وعلماء المدرسة، وها نحن أمام العالم السادس الذي أكد على التقليد القبطي القديم حينما كان الأعلم هو الأقدس، والأقدس هو الأعلم، وأعاد لنا البابا شنودة الثالث عبق الزمن القديم المتجدد حينما تمت روحنة العلم وعلمنة الروحانية، فقيه في اللغة العربية، أعطى للبلاغة روح، وأعاد لنا رواق أبناء العسال الأزهريون الأقباط، فيلسوفاً صالح بين الفلسفة واللاهوت لذا لم يكن غريباً أن يعيد الاعتبار للعلامة أورجينوس، ويفك أسره من الحرمان التاريخي والكنسي، آه يا أبتاه، وإن كان عزيز في عيني الرب رحيل أحباؤه، فكيف بنا الحال نحن الضعفاء، وأنت تترجل يودعك الملايين لتتخذ من دير الأنبا بيشوي رحلتك الثانية نحو عرش النعمة، نرجو منك وكما وحدت الكنيسة تحت جناحيك منذ 31 أكتوبر 1971 وحتى رحيلك 17 مارس 2012 أن تتشفع لنا شعباً وكنيسة من أجل الوحدة أمام عرش النعمة بصلواتك.
من بابا إلى بابا.. وتبقى الكنيسة
أكثر من ثلاثة أجيال لم تتعرف على تراث وتقليد هذه الكنيسة العتيدة في اختيار خدامها ورعاتها من اصغر الرتب الشموسية وحتى الباباوية، فهي الكنيسة الوحيدة التي تطبق القاعدة الإنجيلية “حق الشعب في اختيار راعيه” وهي الوحيدة أيضاً التي ينتخب البابا فيها من مجمع انتخابي يشارك فيه العلمانيين والإكليروس المتزوج والرهبان، كل ذلك كلفها الكثير من الصراعات والتحديات، وليأذن لي القارئ العزيز إن تجاوزت وقلت أن الديمقراطية بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية تعد السر الثامن من أسرارها.
عرفت الكنيسة الصراع ما بين رجال الدين (الأكليروس) والعلمانيين الأقباط حول قيادة جموع الأقباط، منذ نشأة المجلس الملي عام 1872م، وانتخب أعضاؤه في 16/1/1874، واختير بطرس غالي وكيلاً للمجلس. إذ كانت الرئاسة للبطريرك، وأصدر الخديوي أمره باعتماد تشكيله، وبدأ المجلس يباشر مهامه في فبراير 1874، وهو الذي اختار كيرلس الخامس بطريركاً خلفاً لديمتريوس في عام 1875، ورأى كيرلس الخامس أن المجلس يمثل اعتداء على سلطاته فحل المجلس 1875، وسعى بطرس غالي لدى الدولة في هذا الشأن حتى صدر الأمر العالي في 13/3/1883 بتشكيل المجلس الملي مرة أخرى، وأعيد انتخاب بطرس غالي وكيلاً للمجلس في 14/5/1883، ونصت لائحة المجلس الملي على أن يشكل المجلس للنظر في كافة المصالح الداخلية للأقباط (م1). وأن يختص بمصروفات الكنيسة والأديرة والمدارس وجميع حججها ومستنداتها وتنظيم حسابات الإيراد والمنصرف وحفظ الأرصدة (م9) وأن يكون من واجبه إدارة المدارس والمطبعة ومساعدة الفقراء، وحصر الكنائس وقساوستها والأديرة ورهبانها والأمتعة والسجلات الموجودة بهذه الجهات (م10، 14) وذلك فضلاً عن اعتباره- أي المجلس الملي- محكمة للأحوال الشخصية للأقباط تنظر منازعات الزواج والطلاق وغيرها (م 16). (ملحوظة: هذه المادة هي بداية الصراع حول قضايا الأحوال الشخصية بين الإكليروس والعلمانيين في الكنيسة).
ورفض المطارنة ما حدث وأصدروا بياناً يؤكدون فيه أن المجلس مخالفة للأوامر الإلهية والطقوس الرسولية، وأعلن كيرلس الخامس رفضه لللائحة، وعندما أراد المجلس تجديد انتخاب أعضاؤه عام 1891 طلب البطريرك من محافظ القاهرة منع الاجتماع، فقاوم المجلس وعقد الاجتماع، فكتب كيرلس الخامس للحكومة في 20/7/1891 “أن المجلس مخالف للحكومة” فعقد بطرس غالي اجتماعاً وطالب بتدخل الحكومة لرفع يد البطريرك عن المجلس الملي، فهدأ البطريرك ودخل في مفاوضات مع المجلس الملي وتوصل الطرفان إلى اتفاق وسط ينص على:
” أن تبقى أوقاف الأديرة تحت إشراف البطريرك، وأن تحتفظ الأديرة بفائض إيراد أطيانها، وألا يكون للمجلس علاقة بديوان البطريركية، وأن تكون رئاسة المجلس في حالة غياب البطريرك لمن ينيبه من رجال الدين، وأن يكون للبطريرك حق تعيين ثلث المجلس بدون انتخاب”.
ورغم أن اتفاق 1891 يسلب من المجلس الملي اختصاصات كبيرة، إلا أن البطريرك رفض تنفيذه، فطلب المجلس من الحكومة نفي البطريرك، فنفي إلى دير البراموس بوادي النطرون، ونفي مساعده ووكيله الأنبا يؤانس إلى دير الأنبا بولا بالصحراء الشرقية، ودام نفيهما قرابة العام، حتى أعادتهما وزارة رياض باشا، وعاد البطريرك في 4 فبراير 1893، والتف حوله الجماهير بما فيهم أغلب خصومه، ولم يعد البطريرك مهزوماً بل أصبح أكثر تشدداً، فقبل العمل بلائحة 1883 بشرط أن تؤلف لجنة “ملية” تعمل بجواره بدلاً من المجلس المنتخب، وبذلك نسف البطريرك جوهر اللائحة. واستمرت الأوضاع على ذلك المنوال ما يقرب من 12 سنة، بل استطاع البطريرك أن يشرع لاتفاق 1891 عبر الخديوي دون النظر من مجلس شورى النواب في صورة القانون 8 لسنة 1908، ثم جرى تعديل أخر لللائحة بالقانون 3 لسنة 1912، أخرج أوقاف الأديرة من دائرة اختصاص المجلس الملي وقصرها على رجال الدين فقط، ولكن المجلس ظل بعيداً يصدر قراراته التي يرفضها البطريرك حتى 1927.
ويفسر أغلب المؤرخين أسباب تشدد البطريرك بعد المنفى بأن ذلك يعود لعداء كيرلس الخامس للإنجليز، وصراع الخديوي عباس حلمي معهم، وارتباط ذلك بسياسة الخديوي عباس حلمي في الاعتماد على المؤسسات الدينية التقليدية كجزء من مصادر نفوذه. ما أشبه اليوم بالبارحة فالعلاقة بين كيرلس الخامس وعباس حلمي هي التي أسست للمنهج الذي سار عليه البطاركة من كيرلس الخامس حتى شنودة الثالث في علاقتهم مع الدولة وضد الاحتلال الأجنبي سواء كان البريطاني أو الصهيوني فيما بعد.
يتغير الموقف قليلاً بعد ثورة 1919، لكن الصراع استمر حتى تقدم النائب الوفدي سوريال جرجس عضو مجلس الشيوخ بمشروع قانون لتعديل لائحة المجلس الملي، ونص اقتراحه على إبقاء التعديلين اللذين أدخلهما كيرلس الخامس في 1908، 1912، والعودة إلى لائحة 1883 وبعد مناقشة استمرت من 30/5/1927 وحتى 26/6/1927 صدر القانون رقم 19 لسنة 1927، إلا أن رجال الدين من الأساقفة عطلوا القانون وانتهى الأمر باجتماع مشترك للمجلس في 19/11/1928، بناء على أمر من محمد محمود باشا رئيس الوزراء في ذلك الوقت، ببقاء البطريرك في تعيينه رؤساء الأديرة أو أن تؤلف “لجنة أوقاف الأديرة” من البطريرك أو نائبه رئيساً وستة أعضاء، أربعة من المجلس الملي، واثنين من المطارنة يختارهم البطريرك سنوياً، واستقال احتجاجاً على ذلك خمسة من أعضاء المجلس الملي المنتخب، إلا أن القرار صدر، وبالرغم من ذلك لم ينفذه رجال الدين، وهكذا اشتد الصراع بين رجال الدين (الإكليروس) والعلمانيين (المدنيين) حول اختصاصات إدارة الكنيسة، فرجال الدين متمسكين دائماً بكل شيء، ولا سلطات لغيرهم، واستمر الصراع حول اللائحة والاختصاصات في ثورة يوليو 1952 وفي عام 1959 انتخب الأنبا كيرلس السادس بطريركاً وحينما اختلف مع المجلس الملي جمد نشاطه بقرار من جمال عبد الناصر، واستمر الحال حتى انتخاب البابا شنودة الثالث الذي توصل إلى حيلة عبقرية حيث (سام) رسم أعضاء المجلس الملي العام شمامسة أي أعطاهم رتبة دينية هي الدنيا في المراتب الإكليروسية وانتهى الأمر إلى هذا.