مراد وهبة
ما التقدم؟
سؤال أثاره تورجو فى محاضراته التى كان يلقيها فى جامعة السوربون فى عام 1750 تحت عنوان «التقدم المتواصل». الفكرة المحورية، عنده، أنه بزوال العصر الوسيط زالت السمة الدينية للمستقبل. أو بالأدق، زالت النظرة إلى المستقبل باعتباره محكومًا بالحياة الأخرى. فقد كان الهم بالآخرة هو المهيمن على أهل الفكر إلى الحد الذى يعتبر فيه الماضى هو الجاذب لمن يريد البحث عن العصر الذهبى للبشرية. وظل هذا الهم مهيمنًا حتى نهاية القرن السابع عشر. ومع بداية القرن الثامن عشر بدأ الهم بالمستقبل. والفضل فى ذلك مردود إلى تورجو وكوندورسيه ثم انضم إليهما سان سيمون وكونت.
كان تورجو يرى أن التقدم مرهون بالبشر لأنهم يتتابعون فى تغير من جيل إلى جيل. فالأفكار والانفعالات والمعلومات تنتج أحداثًا جديدة، وكل العصور مرتبطة بسلسلة من العلل والمعلولات، ولكن فى تقدم. ومن هذه الزاوية يفترق تورجو عن دعاة التنوير فى القرن الثامن عشر. فتورجو ينشد تأسيس علم للإنسان يتميز من الآلية الكامنة فى الطبيعة عند نيوتن، لأن هذه الآلية لا علاقة لها بالتقدم، أما تأسيس فلسفة عامة تشمل العالمين الإنسانى والطبيعى فتقترب مما يمكن تسميته «نيوتونية سوسيولوجية». وقد تطورت هذه النيوتونية، مع منتصف القرن التاسع عشر، بفضل علمى الجيولوجيا والبيولوجيا، إذ أدخل كل من لامارك ودارون مفهوم التغير فى العلوم الطبيعية. وهذا المفهوم النابع من مفهوم التقدم هو الذى أفضى إلى البحث عن وجوده فى العلوم الطبيعية، وبالتالى تأكد التواصل بين العالمين الإنسانى والطبيعى.
بيد أن هذا التواصل يثير وحدة المنهج العلمى. والذى أثار هذه المسألة هو سان سيمون، إذ تبنى فى عام 1807 مصطلح «وضعى» الذى أطلقه على العلوم الطبيعية والاجتماعية ثم صك مصطلحات أخرى مثل الفردية والصناعية والاشتراكية. ثم قال سيمون: إن أسخف الاعتقادات هو الاعتقاد بأن العصر الذهبى قائم فى الماضى. إن المستقبل وحده هو الذى يختزن هذا العصر الذهبى حيث التقدم متجذر فى الزمان.
والسؤال اذن:
ما الزمان؟
ثمة زمانان: زمان إلهى وهو بلا بداية وبلا نهاية، وزمان إنسانى وهو له بداية ونهاية. والذى يعنينا هنا هو الزمان الإنسانى. ويبدو أنه مرادف للدهر والوقت فى اللغة العربية.
قال حاتم الطائى:
هل الدهر إلا يوم أو أمس أو الغد... كذلك الزمان بيننا يتردد
والدهر هنا هو الزمان وهو ساعات الليل والنهار، والوقت الطويل أو القصير. ويقال دهر كل قوم زمانهم.
وفى رأيى أن أهم ما فى الزمان لا اليوم ولا الأمس إنما الغد، أى المستقبل، ذلك أن حياة الإنسان مهددة باحتمالات مخيفة كالجدب والأوبئة والزلازل والبراكين مما يجعل قراءة المستقبل حاجة ملحة تُشعر ببعض الأمان.
هذا عن الزمان لغويًا وشعبيًا فماذا عن الزمان فلسفيًا؟
إن الانسان هو الكائن الوحيد من بين الكائنات الذى يعى أنه يتحرك، ومن ثم فهو الوحيد الذى يعى الزمان. إذن الزمان يستلزم الوعى به. والسؤال عندئذ: من أين يبدأ الوعى بالزمان؟ إن تحديد البداية محكوم بآنات الزمان. والآنات ثلاثة: الماضى والحاضر والمستقبل.
والسؤال إذن: أين تقع نقطة البداية: فى الماضى أم فى المستقبل؟
نقلا عن المصرى اليوم