البسطاء فى بلادى ليسوا على «قد» حالهم، ولا يرغبون فيه ويتمردون عليه، ولا يمدون أرجلهم على «قد» لحافهم، بل يرفسونه ويركلونه، ويمدون أبصارهم لما متع الله به غيرهم، ويقلدونهم دون سند أو مبرر، ويتفشخرون بلا رصيد، وأنا شخصياً لا ألوم صاحب الحق فى «الفشخرة» وإن وصل بها إلى آخرها، أو رفعها إلى ما شاءت إرادته وأرصدته أن ترفعها، فهو قادر عليها، من ماله ورصيده الذى امتلكه بجهده وعرقه، أو ورثه عن أبويه وأجداده، فهذا حق مباح ومطلوب، وألوم وأعاتب من لا يملك من أمرها شيئاً، ولا يجيدها ويفتقر إلى أسبابها وأدواتها وأرصدتها، ويفرضها على نفسه وعلى الناس التى تعرف حقيقته وحدوده وقدراته، ويدفع الجميع ثمناً غالياً إذا ما فشل فى سداد الشيكات أو إيصالات الأمانة التى فتحت له الباب ويسرت له الأمر، وسهلت له السداد والفشخرة والبعزقة، وهونت عليه التبذير والتبديد، وظن أنه بالغ أمرها، ولن يبلغها يوماً إلا بالتدبير والحكمة، وحينها تقع الواقعة وتساق البائسات الغارمات دون الرجال، خلف القضبان ليقضين فترة العقوبة، ولا أدرى من أين جاءونا بهذه النعرة الكدابة، وهذا الخيلاء المزيف، وهذا التقليد الأعمى، ولا يعيشون كما يجب أن يعيشوا، كل منهم على قدر طاقته وإمكانياته وظروفه، كما عشنا فى بدايات حياتنا على «قدنا»، وزحفنا مع الحياة خطوة خطوة، نستكمل ما نقص، وننجز ما استهل، ونختم ما بدأناه، دون إسراع أو تسرع، أو إرهاق لنا ولمن حولنا من الأهل، ومرت الحياة على ضيقها وسعتها بسلام واطمئنان، وحين نلتفت إليها نرى فى كل مرحلة من مراحلها علامة مضيئة بارزة، وانتصاراً مبيناً، فهذا عام الثلاجة، وبعده التليفزيون الملون، وهذه غرفة الأطفال، وتغيرت الثلاجات كثيراً، وأضحت غرف الأطفال غرفاً للكبار، وكبرت السيارة وكبر العمر، ونترحم على أيامها وما ملكناه فيها وانتهى عمرها معنا، ومرت الحياة بحلوها ومرها وعلى طاقتنا وإمكانياتنا، ولم نفكر يوماً فى الشراء بالتقسيط إلا وكان على قدر ما يدخل جيوبنا فى سنوات السداد، ولا نضر ولا نؤذى بيوتنا وأولادنا، الكل يسير ويمضى دون أن يميل طرف على الآخر أو حاجة على الأخرى، ندرس ونفكر وندبر حتى لا تفلت من بين أيدينا، الأمر مختلف الآن فكل شىء غير محسوب ولا مأمون، وتمضى المرأة المسكينة إيصالات الأمانة بمئات الألوف من أجل ستر البنات، وتعلم علم اليقين أن الفضيحة والجرسة والحبس مقبل لا محالة، فلا سترت بناتها ولا سترت نفسها وأهلها، ولا أعرف كيف يفكرون؟ وهل من العقل أن نستر بناتنا ونفضح أمهاتنا؟ أو نبنى بيوتاً ونخرب أخرى؟ ولماذا لا نستر البنات على «قدنا» وعلى طاقتنا ونستر أنفسنا أيضاً ونبنى لهن بيوتاً صغيرة تكبر مع الزمن، ونترك بيوتنا آمنة عامرة تستقبلهن فيها إذا عدن يوماً؟
وحكاية معظم الغارمات السجينات بسيطة ومكررة فى كل القرى والمدن والنجوع والكفور، وتبدأ عند تجهيز البنات، وتسارع الأم إلى الفشخرة الكدابة، والهيصة المكتومة، وترقص وتغنى وتسعد نفسها وأسرتها سعادة زائفة، مئات الفوط وعشرات من أطقم الأَسِرّة والتليفزيون والشاشات وأطقم الصينى بالعشرات، والغسالات وأدوات المطبخ والنيش ومشتملاته، وكله شراء على بياض وبأسعار مضاعفة، المهم ستر البنات، حتى تعجز عن السداد ولا يجد الدائن سبيلاً سوى تقديم أوراقه للنيابة ثم المحاكمة فالحبس، حتى تخرج من السجن بفضل المتبرعين والمتصدقين، وتخرج واحدة لتحل محلها أخرى، وتخرج المئات لتدخل فى اليوم التالى غيرهن، وكأن الكثير من النساء قد أتقن اللعبة وعرفن من أين المدخل والمخرج، وهو أمر جد خطير.
الإفراج عن الغارمات دون قيود، ودون نظام وأسس حاكمة، مدعاة لزيادة أعدادهن، وبداية لفوضى منظمة، واحتكار لنوع جديد من الجريمة المنظمة، مأمونة العواقب، آمنة نهاياتها، تدفع كثيراً من البسطاء إلى ارتكابها انتظاراً لفرج المتبرعين وأصحاب الزكوات، لا تتركوا حبل الغارمات فى أيديهن، فنحن نتقن لعبة «اللف والدوران» ونجيد اللعب بالقانون والتغلب عليه، لا بد أن نحدد لها مدة ثابتة لا تتعداها لمن وقع فيها، وتحديد نوع الغرم شكلاً وموضوعاً، تكون الغارمة أو الغارم قد اضطر لهذا الدين وأجبر عليه ولم يكن له من سبيل سواه وأغلقت دونه الأسباب، ويستثنى منه تماماً هؤلاء الغارمات اللائى رقصن يوماً وسترن بناتهن تحت عنوان «الفشخرة الكدابة»، أو الإسراف والإفراط فى تجهيز البنات، على الأقل للمقبلين الجدد.
لا شك أن هناك غارمات بعضهن أُجبرن على الدين جبراً، وأُرغِمن عليه إرغاماً، هن أولى بسداد هذا الغرم وقضاء الدين عنهن «أصل الدين» أما التلاعب بأموال المتبرعين فى الإسراف والأفراح الكاذبة، فلست معه ولست مؤيداً له، قضى الله حوائجنا وسدد عنا الدين دون الإسراف والفشخرة الكدابة، ومن فعلها فعليه وزرها.
نقلا عن الوطن