بقلم :فاروق عطية
وما أشبه اليوم بالبارحة، اليوم يصفون الشعب المصري بأنه شعب متدين بطبعه نظرا لمظاهر التدين المنتشرة بين الناس، والحضور الطاغي للجماعات الدينية السلفية وتغلغلها وتحكمها في كل مقدرات الناس، رغم ما نراه من انتشار التحرش واللواط ونكاح المحارم، وحدث بلا حرج عن فساد الذمم وانتشار الرشوة والسرقات التزويغ من العمل والبلطجة في الشوارع والطرقات.
كذلك كان الحال في زمن المماليك البرجية، وإن لم يذكر المؤرخون ذلك بالنسبة للشعب ولكنهم أفاضوا في ذكر مظاهر التدين والشذوذ بين الملوك والأمراء في ذلك العصر، وبالطبع الناس علي دين ملوكهم.
كان المماليك اكثر طائفة تأثرت بالدين السائد، خصوصا وقد جاءوا من بلادهم أطفالا سرعان ماتعودوا وتطبعوا بطابع المجتمع الذى عملوا فى خدمته صغارا ثم حكموه كبارا. هم حين اعتنقوا الإسلام أفرادا وأطفالا إنما اعتنقوا التصوف دينا عمليا بعقائده وأخلاقياته. والمماليك سواء كانوا سلاطين أو أمراء وقعوا فريسة للإنحلال خصوصا الشذوذ الجنسى، وساعده عليه تحول المعسكرات التى تجمع صغار المماليك إلى أوكار لممارسة الشذوذ، ولم تبخل الحوليات التاريخية التى كتبت فى عهد السلطة المملوكية البرجية بالإشارة إلى انحلال السلاطين وشذوذهم الجنسى:
ـ كان السلطان برقوق أبرز مثل لهذا الجمع بين التدين والشذوذ الجنسى والفساد السياسى، فقد أوصى برقوق عند موته أن تُعمّر له تربة (مقبرة ضخمة كمؤسسة صوفية) تحت الجبل ويوقف عليها الأوقاف، وأن يدفن فى لحد تحت أقدام مجموعة من الأولياء الصوفية ليتشفعوا فيه، وهم علاء الدين السيرامى وأمين الدين الخلوتى وعبدالله الجبرتى وعبدالكريم الجبرتى. ومع ذلك فإن شهرة برقوق فى الشذوذ الجنسى أثرت على عصره. والناس على دين ملوكهم سواء كانوا صوفية أو سلاطين. يقول أبو المحاسن عنه وعنهم ( اشتهر فى أيامه اتيان الذكور، من اشتهاره بتقريب المماليك الحسان لعمل الفاحشة فيهم).
ـ يصف المقريزى السلطان فرج بن برقوق: بالتجاهر بالفسوق من شرب الخمر واتيان الفواحش والتجرؤ العظيم على الله جلت قدرته، والتلفظ من الاستخفاف بالله تعالى ورسله ماتكاد الألسنة تنطق بحكايته لقبح شناعته.
ـ قد يقلع السلطان عن الفسوق إذا مرض وعجز، وذلك ماحدث للسلطان المؤيد شيخ. وبعضهم كان يتمادى فى التدين الصوفى فيتمادى فى الانحلال الخلقى، فالظاهر ططر كان مريدا للشيخ شمس الدين الحنفى وكان مشهورا فى نفس الوقت (بعشقه للشباب).
ـ وكان المؤرخون أكثر صراحة فى وصف كبار الأمراء المماليك بالفسق، فى هذا المجال برز المقريزى بحدة ألفاظه، فيقول عن الأمير قنباك( كان من سيئات الزمان جهلا وظلما وفسقا)، وعن الأمير ابن الطبلاوى وموته (أراح به الناس من ظلمه وفسقه وعتوه)، وعن الأمير يشبك اليوسفى (من شرار خلق الله لما عليه من الفجور والجرأة على الفسق)، وعن الأمير آق قجا كاشف الوجه القبلى فى عهد ططر وبرسباى ( افتض مائة بكر غصبا)، وعن الأمير تيبك ميلق ( كان ظالما سخيفا ماجنا متجاهرا بالمعاصى)، وعن الأمير سودون الأقيت لشدة بخله وكثرة فسقه وظلمه (كان عيبا كله)، وعن الأمير تغري بردي (والد المؤرخ ابى المحاسن) (ماهو إلا الظلم والفسق)، وعن الأمير إينال الطوروزى (كان ظالما فاسقا)، وعن الأمير تاج الدين القازانى والى القاهرة ( لم يعف عن حرام ولم يكف عن الإثم، وكان عار على جميع بني آدم)، وعن الأمير سودون ( كان مصرا على مالا تبيحه الشريعة من شهواته الخسيسة)، وعن الأمير طوخ نازى ( من شرار خلق الله فسقا وظلما وطمعا). وحتى من خدم السلطة من الأقباط فقد اتصف بنفس السلوك ومنهم علي سبيل المثال الأمير إبن الرملي الذي قال عنه المقريزي: الأمير ابن الرملى ناظر الدولة (من ظلمة الكتاب الأقباط وفُسّاقهم).
من الأحداث المؤسفة البارزة التي وقعت في هذا العصر، والتي تظهر لنا إلى أي مدى وصل انحيف بالأمة القبطية، وكيف عمل المسلمون على ضعف النفوذ القبطي في البلاد، ومن جهة أخرى نرى شدة حرج السلاطين؛ إذ إنهم أبقوا على الدجاجة ذات البيض الذهبي «وفي الحقيقة كان إنتاج هذه الدجاجة ضعيفًا جدًّا» ولم يستغنوا عن خدمات الأقباط، فعملوا على الحد من غضب الجماهير قدر المستطاع. ومن هذه الأحداث المؤسفة يذكر المؤرخون ما يلي:
ـ في عام 787ﻫ /1385م أصدر السلطان الملك الظاهر برقوق مرسوما بإبطال الاحتفال بيوم عيد النيروز، وأرسل الحجاب مع جماعة من المماليك السلطانية ووالي الشرطة، فطافوا في أماكن المتفرجات وفي الطرقات، فمن وجدوه يفعل ذلك يضربونه بالمقارع، وصاروا يقطعون أيدي جماعة ممن كان يفعل ذلك، وقاموا في ذلك قيامًا عظيمًا حتى بطل ذلك من القاهرة وأشهروا النداء بمن يفعل ذلك بالشنق، فانكف الناس من يومئذ عن ذلك.
ـ وفي عام 803ﻫ /1400م، هدم الأمير يلبغا السالمي كنيسة للنصارى بجوار شبرا الخيمة، وحطم أكثر من أربعين ألف جرة نبيذ، وكان عازمًا على اضطهاد النصارى، ولكن حال سائر الأمراء بينه وبين تنفيذ أغراضه.
ـ وفي عام 818ﻫ /1415م، أراد الأمير سيف الدين أن يفرض غرامة على النصارى، ولكن السلطات عارضت في ذلك، فما كان منه إلا أن توجه مغضبًا إلى الحي الذي كان يباع فيه النبيذ، وأمر بإهراق عدة آلاف جرة منه، وأخذ من النصارى عنوة بعض المال.
ـ في عام 822ﻫ /1419م، أرغم النصارى واليهود على زم أكمامهم وتقصير عمائمهم بحيث لا تتجاوز سبعة أذرع طولًا، وطلب إليهم أيضًا أن يعلقوا جرسًا صغيرًا في عنقهم عند دخولهم الحمام، وأمرت نساؤهم بارتداء فساتين صفراء، وفي نفس السنة، أخذ على النصارى عدم مبالاتهم بالقوانين الجديدة الخاصة بأزيائهم، وبعد نقاش طويل تقرر طردهم من الدواوين، وقد أُلقي في السجن كاتم أسرار الوزير النصراني أبو الفضائل، ثم جُلد بالسياط وطيف به شوارع القاهرة يتبعه محتسب يصيح بأعلى صوته: «هكذا نعامل النصارى الذين يشتغلون وظيفة في دواوين السلطان.»، فلم يجرؤ أحد من النصارى بعد ذلك على شغل أية وظيفة رسمية.
ومنع النصارى فيما منعوا من ركوب البغال في مدينة القاهرة، أما في خارجها فقد صرح لهم بركوبها ولكن على طريقة النساء، مما اضطر بعضهم إلى اعتناق الإسلام هربًا من هذا الإذلال، فانتقلوا من جحيم الذلة إلى نعيم الإجلال والإكرام، وقد امتطوا الجياد بدل البغال، وأخذوا ينظرون إلى المسلمين شزرًا وينعمون برؤيتهم وهم يعملون على كسب رضائهم بالخضوع لهم والتشفع عندهم.
ـ وفي عام 846ﻫ /1442م حدث للنصارى واليهود من الذل والخزي والإهانة والتغريم ما يفوق الوصف بسبب الترميمات التي قام بها الملكيون سرًّا في كنيستهم، وأصدر السلطان مرسوما بعقد مجلس بحضرته بالقضاة الأربعة وغيرهم من مشايخ الإسلام وأركان الدولة من المباشرين وغيرهم، وأُحضر مؤنس بطريرك النصارى اليعاقبة، وفليوثاؤس بطريرك النصارى الملكيين، وعبد اللطيف من طائفة اليهود الربائيين، وفرج الله أحد مشايخ اليهود القرائيين، وإبراهيم كبير طائفة اليهود السامرة وسئلوا عن العهد المكتتب على أسلافهم، فلم يعرفوه، ودار الكلام في المجلس فيما يؤمرون إلى أن اقتضت الآراء السعيدة تجديد العهد عليهم على وفق المنقول عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
ـ وفي سنتي 849 و850ﻫ، هُدمت بضع كنائس وأُرسلت أنقاضها إلى السلطات المختصة، ويذكر السخاوي أنه لم يبقَ في عام ٨٥٢ﻫ كنيسة واحدة لم يلحق بها ضرر.
بصفة عامة كان عهد المماليك من أسوأ عهود مصر، ومعظم آثار مصر خرجت منها بطريق السرقة أو البيع أو الهدايا وتوزعت على بلاد العالم ومتاحفه خلال عصر المماليك. وعانى المسيحيون أشد المعاناة من هدم كنائسهم وتحولهم للإسلام خوفًا أو للحفاظ على وظائفهم. إلا أن الميزة الأساسية لهذا العصر هو تصدى المماليك لجيوش المغول التى قادها هولاكو، فلولا عصر المماليك، لكانت جيوش المغول غيرت مجرى التاريخ والثقافة فى مصر.