طارق الشناوي
هل كان من الضرورى أن يبحث الكاتب أحمد مراد والمخرج مروان حامد والنجم كريم عبدالعزيز عن استثمار اسم (الفيل الأزرق)، حقق (الفيل) نجاحا استثنائيا كرواية وأكدها الفيلم السينمائى قبل نحو خمسة أعوام، فصار الأكثر مبيعا ككتاب والأكثر رواجا كشريط؟
نظريا كان من الممكن أن يبدأ مشروع الفيلم الجديد صفحة بيضاء، غير محملة بأى كلمات متناثرة هنا أو هناك، من الممكن أن يحتفظا فقط باسم (الفيل الأزرق) وينتقلا برشاقة إلى أجواء أخرى، إلا أنهما طبقا حرفيا الجملة التى ترددت فى الفيلم (الشيطان اللى تعرفه أحسن من الشيطان اللى ما تعرفوش)، تغيير الشيطان نظريا كان كفيلا بأن يمنح الكاتب والمخرج مساحة حركة أكبر، فهما سيصبحان غير محملين بعبء درامى إضافى يدفعهما للبحث عن خطوط واهية للشخصيات تربطهم بالماضى، (الشيطان اللى ما تعرفوش) يمنح الفيلم حرية أكثر فى الانطلاق، ورغم ذلك فإن (الشيطان اللى تعرفه) تم ترويضه، فى أغلب مشاهد الفيلم، ليلعب دور (الشيطان اللى ما تعرفوش).
الشخصية الرئيسية فى الفيلمين كريم عبدالعزيز، الطبيب النفسى الذى صار هو أيضا مريضا ووقع تحت سطوة حبوب الهلوثة، وينتقل هذه المرة من عنبر الرجال إلى النساء، داخل مستشفى الأمراض العقلية، أقراص (الفيل الأزرق) تبدو كأنها تبحث عن معادل مواز على الشاشة، تمنح مساحات غير مسبوقة للتعبير بالموسيقى والغناء والإضاءة واللون والحركة وأداء الممثلين، الفيلم كان يرقص برشاقة بكل تلك المفردات السينمائية.
عالم خاص جمع بين الكاتب والمخرج، يحلق بجناحين بعيدا عن الواقع، لكنه أيضا يقف بقدميه على أرض الواقع، السيناريو فى جانب منه يبدو فى لحظات عشوائيا، والحقيقة أنه يصدر لنا تلك العشوائية عامدا متعمدا، ليصبح هذا هو القانون (العشوائية المنضبطة)، فهو ينطلق من جريمة إلى أخرى ومن بقع دموية إلى أجزاء بشرية، نرى فى البداية أذن امرأة ملقاة على الأرض ضحية هند صبرى، القابعة فى عنبر الحريم فى قسم الخطرين بالمستشفى، بعد أن قتلت زوجها وطفلها، تبدو فى الفيلم لمحات رعب، إلا أنه قطعا ليس فيلم رعب، لا يخلو قطعا من مساحات دماء وعنف مفرط مقننة بذكاء، فهو يقف فقط على شاطئ الرعب، لأنه لو تم تصنيفه تحت تلك النوعية سيغادر المتفرج مقعده، مهزوما لأنه لم يأخذ نصيبه من الرعب.
الفيلم أيضا يتضمن لمحات كوميدية، وهذا لا يضعه قطعا فى إطار السينما الكوميديا.
الشريط مؤكد منحنا قناعة بأن هذا النوع من السينما المنتشر فى العالم أقصد سينما الرعب ليس بعيدا عن صُناع السينما المصرية، اخترق مروان حاجز الرعب من الرعب!!
تفاصيل عديدة ترى فيها المخرج وهو فى حالة هارمونية مع كل العناصر الفنية منذ كتابة السيناريو للموهوب أحمد مراد، الذى قرر أن يصبح فقط نفسه، لديه عالمه ومفرداته، ولا يستعير أصابع أحد ولا خيال أحد، لدينا عناصر إبداعية أضافت الكثير، لتصنع تلك الحالة الخاصة والعميقة والقادرة على جذب مشاعر وعقل وعين المتفرج، المصور أحمد مرسى والمونتير أحمد حافظ وملابس ناهد نصرالله وديكور محمد عطية وموسيقى هشام نزيه، كل منهم يعزف بأدواته الإبداعية نفس النغمة التى تقف فى المسافة بين الواقع والكابوس.
المخرج يسيطر على التفاصيل التى تمنح الشريط وهجا وتفردا على مستوى الجمال الفنى بتعدد مستوياته، لا توجد عشوائية ولا مجانية فى الانطلاق من زمن إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، ومن إيقاع لإيقاع، الانضباط فى التفاصيل هو مفتاح هذا الفيلم لفك الطلسم.
هلوثة تصل، فى الكثير من الأحيان، إلى حدود الكابوس، تحملك بفيض من مشاعر الخوف على مصير أبطالك المهددين دوما بالموت، ثم تتبدد فى لحظات بالصوت أو الإضاءة أو اللون، لتهدئ من روعك وتهذب من هلعك ليعود إليك التوازن، لا بأس من أن تتعرض مجددا لحالة أخرى من فقدان الأمان.
أحد مفاتيح الدراما، اللعب على الخوف، ثم بين الحين والآخر يرمى إليك طوق النجاة، وهكذا تستطيع أن ترى أن الإطار العام مشدود بين خطين، هند صبرى من ناحية والطفل ابن كريم وزوجته نيللى كريم على الجانب الآخر، الرسالة الأولى تبدأ مع هند صبرى بأن القتل ينتظر تلك العائلة الصغيرة، وأنت مثل كريم تعيش معهم اللحظة بفعل حبوب (الفيل الأزرق)، هند صبرى تقدم واحدا من أهم أدوارها على الشاشة، تجمع، فى كثير من اللقطات، بين العنف والدموية والجنون والعقل ولا تتخلى عن غواية الأنثى، نيللى كريم أتقنت الدور الذى كان يتكئ على تقنين الانفعال بهدوء يسكن على الملامح، كريم عبدالعزيز، الممثل الكامن فى أعماقه يشتعل هذه المرة إبداعا.
الخط الدرامى الذى يمنح هند مشروعية التواجد أنها وزوجة كريم، نيللى كريم، كانتا تتصارعان أثناء الجامعة على زميلهما رمزى لينر، الذى تزوج نيللى وأنجب منها طفلته، وعندما يسأله كريم يقول لو عادت الأيام لاختار هند، الخط الذى يجمع بين خالد الصاوى وكريم هذه المرة فى المشهد الوحيد الذى يؤديه خالد، حيث يقطع جزءا من لسانه، ليظل الطلسم عصيا على الكشف. الشريط يشتبك فى مباراة رائعة مع الجمهور، يتجاوز صُناع الفيلم خيال الناس فيصفق لهم الناس.
المخرج يدرك أن هناك ترقبا لا شعورى، لما بعد حالة الإبهار بالموسيقى واللون والضوء والحركة، تأتى النهاية لتعود الكرة إلى ملعب الجمهور، بعد أن أضيف للأسرة المكونة من كريم ونيللى وابنة نيللى من زيجة سابقة والطفل، وأضيف لهم طفلا رضيعا، لينتقل الطلسم من الشاشة إلى صالة العرض. هل مر زمن كان الجميع فيه خارج الزمن؟ فى لقطة موحية يطل كريم على ملامحه فى المرآة ليكتشف أنه قد أوغل أكثر فى العمر، هل هو زمن ضائع، تابعناه فى العالم السحرى الكابوسى، بينما الواقع كان يمشى فى تتابع آخر منضبط، ولاتزال الطلاسم تفتح ربما المجال لجزء ثالث.
(الفيل الأزرق 2) نقلة مهمة على مستوى السرد والتتابع والرؤية البصرية والسمعية ذهبت بنا بعيدا، أبعد من خيال الناس، وظل الطلسم عصيا على الإجابة.
فى زمن عزت فيه السينما ينطلق الثنائى أحمد مراد ومروان حامد ومعهم فريق من الموهوبين، يؤكدون أن السينما الجميلة لاتزال ممكنة، لنعيش على الشاشة (الكابوس المبهج الذى حمل اسم (الفيل الأزرق 2)!.
نقلا عن المصرى اليوم