مانزال ونحن نعيش في دولة المساواة الدستورية وحقوق المواطنة نتعثر بين الحين والآخر في سقطات تعصف بالمساواة وبالمواطنة, وكأن قدرنا يتبع مقولة الحلو مايكملش!!.. فبعدما استقبلت منذ أسبوعين بارتياح أنباء تأسيس أقسام للدراسات القبطية في جامعتين مصريتين, وبشائر المساواة بين الرجل والمرأة في لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين, والإفراج عن المجموعة الثامنة من تقنين أوضاع الكنائس… أعود اليوم لأسجل بكل ضيق وقلق استمرار أزمة الكنائس المغلقة والتي تمثل شوكة في حلق الأقباط الذين يعيشون في مناطق هذه الكنائس, فهم يعيشون أسري المهانة والقهر والمرارة لعجزهم عن ممارسة صلواتهم وشعائرهم الدينية في كنيسة قريتهم المغلقة واضطرارهم إلي خوض مشقة الانتقال لمسافات كبيرة تفصلهم عن أقرب كنيسة غير مغلقة لأداء تلك الصلوات والشعائر… وقد تضطرهم الظروف إلي قبول غير المقبول مثلما حدث منذ نحو أسبوعين في قرية كوم الراهب مركز سمالوط بالمنيا, الذين أرادوا الصلاة علي جثمان أحد الأقباط المتوفين بالقرية وتعذر عليهم حمل نعشه إلي الكنيسة البعيدة فطلبوا من السلطة الأمنية التي أغلقت كنيستهم في ديسمبر 2018 أن تفتحها للصلاة علي المتوفي لكنها رفضت, فما كان منهم إلا أن أقاموا صلاة الجنازة في الطريق العام أمام الكنيسة وسط مشاعر متأججة من الضيق والحنق.
الجدير بالذكر أن السلطات التي أغلقت هذه الكنيسة أغلقتها عن حق لأنها كنيسة لم تحصل علي موافقات أو تراخيص طبقا لقانون بناء وترميم الكنائس الصادر في 2016/9/28 وبنيت بعد صدوره بالمخالفة لأحكامه لكن ليست هذه هي الحالة الوحيدة التي تمثل الكنائس المغلقة, إنما هناك حالات كثيرة لكنائس بنيت قبل صدور قانون بناء وترميم الكنائس ومقدمة أوراقها إلي لجنة تقنين الأوضاع وبالتالي تخضع لقرار منع إغلاقها وإتاحة ممارسة الشعائر الدينية فيها حتي يصدر قرار تقنين أوضاعها.
هذه التجارب المؤلمة التي يتعرض لها حفنة من المواطنين مهما كان عددهم محدودا ومهما كانوا يعيشون في قرية صغيرة في بقعة نائية في صعيد مصر, لا يجب أن نستهين بها أو نغض البصر عنها, ولا يستقيم أن نتذرع بأنها لا تمثل السياق العام المعاش لغالبية الأقباط فلا نتصدي لعلاجها, لأن المساواة التي كفلها الدستور وحقوق المواطنة التي يتمتع بها المصريون ليس المقصود بهما إطلاقا ما يكفل أو يتمتع به غالبية المواطنين وكفي, وإنما جميع المواطنين علي الإطلاق دون إقصاء أحد أو التقليل من شأن أحد أو التعتيم علي الاعتداء علي حق أحد مهما صغر شأنه أو تواضع مركزه.
ولعلي في هذا الصدد أجدني مدفوعا لإعادة كتابة ما سبق أن سطره قلمي إزاء موقف مشابه من سلسلة المواقف التي تباغتنا بين الحين والآخر وتسفر عن العصف بالأقباط وإغلاق كنائسهم, وكان ذلك منذ أشهر قليلة حيث كتبت:
دعونا نعترف أنه لا يكاد يمر شهر -وفي بعض الأحيان أسبوع- إلا ونبتلي بأعمال عدائية غوغائية إرهابية ضد الأقباط, وخاصة في مراكز وقري ونجوع صعيد مصر, وعلي رأسها جمهورية المنيا المستقلة -حيث تتم محاصرة أماكن صلاة وعبادة الأقباط وترويعهم وتهديدهم والتحرش بهم والاعتداء عليهم, في ظل وجود ممثلي الدولة من مسئولين سياسيين وإداريين وأمنيين لا حول لهم ولا قوة سوي الادعاء بصون السلام المجتمعي, وأدواتهم لإدراك ذلك هي الخنوع أمام زئير الغوغاء وتهدئة ثورتهم والانصياع لرغباتهم بإبعاد الأقباط عن دور عبادتهم وإغلاقها, غير مدركين أن في ذلك منتهي المهانة لهيبة وكرامة الدولة ومنتهي التفريط في سيادة القانون ومنتهي العصف بحقوق المواطنة والمساواة والحماية الواجبة للضحايا الأقباط, ومن قبل ذلك كله منتهي الاستخفاف بدستور هذا البلد الذي يعج بجميع ضمانات الحقوق والحريات!!
وإياكم أن نخدع أنفسنا بكافة صور الغلوشة علي هذا الواقع البائس من عينة ترديد المعايير التي يسطرها الدستور -وتبقي غير معاشة!!- أو التغني بمثاليات رئيس الجمهورية وهو يتحدث عن حق كل مواطن مصري في أن يعبد من يشاء ويصلي لمن يشاء, أو استدعاء حكمة ووطنية قداسة البابا ومقولته العظيمة وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن, أو الاحتماء خلف سماحة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر, فإن كل تلك الصور الوطنية لا تكتسب مغزاها الحق أو مدلولها الصحيح طالما هناك في ربوع مصر المحروسة مواطنون يقفون أمامها غير مصدقين لأن واقعهم المعاش يفيض بالذل والمهانة والقهر ولا يشعرون بأي حماية لمواطنتهم ولا كفالة لحقوقهم ولا هيبة لدولتهم ولا صولجان لقانونهم!!
*** أعتذر لتكرار مقاطع مما سبق وكتبت, لكن كما ترون ما أشبه اليوم بالبارحة.. وتبقي البقع السوداء تشوه الثوب الأبيض!!