منى أبوسنة
فى مقال سابق أثرت قضية الأزمة بين السلطة السياسية، المتمثلة فى الدولة ورئيسها من جهة، وما سميته السلطة الثقافية، المتمثلة فى المثقفين المتمركزين فى المجلس الأعلى للثقافة من جهة أخرى، وتساءلت: هل فى الإمكان الخروج من هذه الأزمة برفع هذا التناقض وتجاوزه بحيث يحدث تلاق وتفاعل بين السلطتين؟
إذا كان الجواب بالسلب فمن المحتم أن يتعمق التناقض وتتسع الهوة بين السلطتين، والنتيجة بطبيعة الحال فى صالح فكر الإرهاب، أما إذا كان الجواب بالإيجاب ففى هذه الحالة علينا البحث عن حلول مبدعة تخرجنا من الأزمة، وأحد هذه الحلول فى تقديرى يتمثل فى مسارين.. المسار الأول هو الإبقاء على المجلس الأعلى للثقافة مع إعادة تشكيل بنيته الحالية المتجزئة فى لجان لا رابط بينها، إلى إيجاد صيغة جديدة تقوم على تحقيق الوحدة بين فروع المعرفة فى مجالى العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية (الغائبة عن لجان المجلس الحالية). وتستند هذه الوحدة إلى مبدأ وحدة المعرفة التى تتجاوز وحدة العلوم، مع التركيز على الفلسفة والعلوم الطبيعية، خاصة علم الفيزياء وعلم السياسة والتاريخ والدراسات الدينية وعلوم الثورة الصناعية الرابعة من علوم الفضاء والروبوتكس والتكنولوجيا الرقمية، كما يجب أن تقوم وحدة المعرفة على منهج، أو عدة مناهج، من أجل توظيف المعرفة لتغيير الواقع، وحيث إن المعرفة قوة طبقاً لمقولة فرانسيس بيكون، الفيلسوف الإنجليزى، بيد أن تغيير الواقع يجب أن يقوم على الوعى بالرسالة المنوطة بالمثقف فى هذه الحالة، وهى رسالة مواجهة فكر الإرهاب بفكر التنوير، حيث يحدث التلاقى والتكامل بين الإدارة السياسية ووعى المثقفين برسالتهم. أما المسار الثانى فيكمن فى الإبقاء على المجلس الأعلى للثقافة بتشكيلته الحالية فى حالة محلك سر، مع البحث خارج المجلس عن نخبة مثقفة بديلة تمتلك الوعى بالأزمة وتكون لديها حلول مبدعة لتجاوز الأزمة.
فمن يقوم بمهمة البحث؟ هل تقوم بها الدولة؟ الدولة فى هذه الحالة ممتنعة لأنها جزء من الأزمة.
أم يقوم بالمهمة طبقة رجال الأعمال والاقتصاديين الجدد؟ أثار هذا السؤال فى ذهنى تجربة التنوير التى حدثت فى فرنسا فى القرن الثامن عشر، حيث قامت طبقة النبلاء وكبار الإقطاعيين برعاية مجموعة من الفلاسفة والعلماء عُرفوا فيما بعد بفلاسفة التنوير، وساندتهم الطبقة الصاعدة من التجار الذين كانوا يسمون البرجوازية، وقد حدث هذا التلاحم بين الاقتصاد والفكر من خلال فكر وفلاسفة التنوير، ما أدى فى نهاية الأمر إلى قيام الثورة الفرنسية والقضاء على الملكية وإقامة الجمهورية الفرنسية الأولى، وامتدت فلسفة التنوير إلى أمريكا لتشعل الثورة الأمريكية بقيادة الفلاسفة الأمريكان بتدعيم من ممثلى الرأسمالية الصاعدة.
فى تقديرى، أن الوضع القائم الآن فى مصر قريب الشبه بالوضع الأوروبى فى القرن الـ١٨. مع تغير فى الشكل. فالإرهاب الدينى الأصولى المتلاحم مع الرأسمالية الطفيلية هو العدو للرأسمالية المستنيرة القائمة على منتجات الثورة العلمية والتكنولوجية والداعمة لسياسة الرئيس السيسى فى مسار الإصلاح والتقدم. ومن مصلحة تلك الطبقة من الرأسماليين المستنيرين تدعيم نخبة بديلة من المثقفين الذين يمتلكون الوعى بالأزمة ولديهم حلول مبدعة للخروج منها. وبناءً عليه فإن مهمة البحث عن نخبة ثقافية مبدعة وقادرة على تغيير الواقع تقع على عاتق طبقة الرأسماليين المستنيرين، فإن وجدتها عندئذ سيكتمل مثلث مواجهة الإرهاب المكون من ثلاثة أضلاع، هى: الدولة، والنخبة المثقفة، والرأسمالية المستنيرة، ليُنتج ذلك فكرا جديدا وواقعا جديدا.
وختاما أشير إلى لقاء الرئيس السيسى بالسيد رونالد لاودر، رئيس الكونجرس اليهودى، فى ١١ يونيو ٢٠١٩، حيث قال الرئيس السيسى فى هذا اللقاء: «إن تسوية النزاع الفلسطينى- الإسرائيلى على نحو يضمن حقوق الشعب الفلسطينى وفق ثوابت المرجعيات الدولية من شأنها أن تفرض ثقافة وواقعا جديدا على دول المنطقة وشعوبها، ويفتح آفاقا جديدة للبناء والتنمية والاستقرار، ويقوض الفكر المتطرف الذى يفرز العنف والإرهاب».
وأهم ما جاء فى عبارة الرئيس جملة «ثقافة جديدة»، والأهمية تكمن فى هوية هذه الثقافة الجديدة من جهة، والمسؤول عن صياغة تلك الهوية من جهة أخرى.
وفى تقديرى أن عبارة الرئيس يمكن اعتبارها خطاب تكليف موجهًا إلى النخبة البديلة التى مازالت غائبة لأنها فى انتظار من يعثر عليها.
نقلا عن المصرى اليوم