بقلم : كمال زاخر
شكراً للدعوة الكريمة للمشاركة فى هذه الندوة المتميزة، فى موضوعاتها، وفى دلالات الداعين لها، وثقلهم، مؤسسة الفكر العربى ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
وقبل الحديث فى محور هذه الجلسة "تجديد الخطاب الدينى" أود أن اشير الى تعرفى على مؤسسة الفكر العربى والتى جاءت مصادفة مع المؤتمر التأسيسى لها، اكتوبر 2002، حين طالعت خبراً عنه فى الأهرام فى صفحته الأخيرة فى باب "من غير عنوان" يشير الى انعقاد ندوة بأحد الفنادق الكبرى بالقاهرة تناقش "الأديان السماوية والهوية العربية" وكان المتحدث الأبرز فيها قداسة البابا شنودة الثالث، ويدير الجلسة الإعلامى الأشهر، آنذاك، جورج قرداحى، وكان الحدث مغرياً بالمشاركة، لشخوصه وموضوعه والداعين له، وكان عندى سبب شخصى يزاحم هذه المعطيات وربما يسبقها، أن التقى قداسة البابا خارج سياجات المقر البابوى المحكمة، والتى تحول دون مقابلته، من دائرة السكرتارية الحديدية، وقد كان، والتقيته عقب انتهاء الجلسة وامتد الحوار المتفرد لما يزيد عن الساعة، وكانت الجلسة وكان الحوار، فى طيف منهما، غير بعيدين عما نطرحه اليوم.
أما فيما يتعلق بطرحنا فيتناول إشكالية "تجديد الخطاب الدينى القبطى الأرثوذكسى"، والسؤال هل يحتاج هذا الخطاب الى تجديد؟، ولماذا الآن؟،
ونجد أمامنا رأيان؛ يرى احدهما أن هذه الدعوة لا تخلو من غرض غير معلن، وهو احداث حالة من الموازنة مع الدعوة الملحة لتجديد الخطاب الإسلامى، ومحاولة تخفيف الضغط عليه واظهار الأمر على أنه حالة اجتماعية وثقافية تشمل الجميع وليست دينية، فيما يرى أخرون أن الخطاب الدينى المسيحى يحتاج للتجديد لكونه ـ بعيداً عن المقاربة أو المقارنة مع الخطاب الإسلامى، فى الأسباب وفى النتائج ـ آلية تصل من خلالها رسالة المسيحية الى تابعيها، فضلاً عن ان الخطاب يتوجب أن يكون بلغة معاصرة يستوعبها ويفهمها المتلقى ويجد فيها اجابة على اسئلة اللحظة.
فالتجديد إذن أمر تفرضه الحياة والتطورات التى تفرزها اليات التقدم وتقنيات التواصل والمعرفة، وطبيعة واحتياجات الأجيال الجديدة، ولا يمكن اغفال طبيعة التشابكات المجتمعية ووضعية الكنيسة فى المجالين العام والخاص، وقدرتها على التعاطى مع الفضاء الثقافى وامتلاكها لأدواتها الفكرية وتفهمها لها.
لكن لماذا يواجه التجديد مقاومة على الأرض داخل الجماعة القبطية فى مواقع مختلفة بين القمة والسفح، وينظر إلى دعوته بكثير من التوجس وربما الريبة؟
ربما التخوف من الذوبان فى كيانات اكبر نراها مغايرة لما نعتقده، بفعل عداءات تاريخية، وهو ما نشهده فى الجدل الصاخب الدائر حول الحراك المسكونى والقفز على متاريس التقارب مع العائلة الأرثوذكسة الخلقيدونية أو مع الكنيسة الكاثوليكية، أو فتح قنوات ما مع الكنيسة اللوثرية.
وربما التخوف من مراجعة ما استقر فى الذهنية الجمعية والشعبوية، بفعل الإنكفاء على الذات الممتد لقرون، ورغم ذلك كان هذا الإنكفاء أحد أهم اليات الحفاظ على الهوية الدينية وربما القومية ايضاً، خاصة فى مراحل الضعف التى تلت الانقطاعات المعرفية التى جازتها الكنيسة والأقباط، فى حصون ذاتية، بعد أن تحولت من كنيسة قائدة وفاعلة الى كنيسة أقلية، وانعكس هذا على خطابها يقتات على النذر اليسير الذى بقى فى حوزتها وهى تنتقل من اليونانية الى القبطية بعد زلزال خلقيدونية (القرن السادس) والانتقال القسرى من القبطية الى العربية فيما بين القرنين العاشر والحادى عشر، وتحوله فى الأخير إلى خطاب دفاعى ثالوثى توحيدى، بعد أن كان خطاباً بنائيا كرستولوجياً، وتبنى توجهاً تأملياً يتحاشى الإصطدام بالثقافة السائدة.
وحتى عندما لاحت بوادر الاستفاقة والخروج من نفق الإنقطاع الممتد، مع بدايات القرن التاسع عشر، فى سياق عام شهد حراكاً اشمل فى ردة فعل للحملة الفرنسية وقدوم محمد على، والصدمة الحضارية وقتها، ثم استنفار الأجسام المضادة فى الجسد القبطى لمواجهة الإرساليات التى نفذت اليه فى اعطاف الحملة الفرنسية والإحتلال البريطانى، وتمدد الذراع الأمريكى الوريث القادم لموازين القوى الجديدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وبعدهما، لم يكن الخطاب الدينى القبطى الأرثوذكسى يملك أدوات بنائية كافية ليشكل قوة تعيد ترتيب الذهنية القبطية تتواصل مع الجذور من جانب ومع متطلبات تلك المرحلة من جانب أخر، فغالبية تراثه ولاهوته كان محتجزاً خلف لغات انقطع اللسان القبطى عنها لقرون.
منذ اللحظة التى قرر فيها البابا غبريال بن تريك (1131 ـ 1145م.) تعريب الصلوات والقراءات الكنسية والطقوس القبطية.
لكن البدايات كانت تحمل معطيات الخروج مع قدوم البابا كيرلس الرابع (1853 ـ 1861م.) الذى انتبه لأهمية التعليم وانجز الكثير رغم قصر مدة ولايته، فى انشاء المدارس العامة واستقدام اكبر ثانى مطبعة بعد مطبعة محمد على (المطابع الأميرية)، وفتح الباب لتعليم البنات، وافتتح مدرسة لتعليم المهن الصناعية، ويستكمل بعده بسنوات البابا كيرلس الخامس (1874 ـ 1927م.) المسيرة وقد امتد به المقام لأكثر من نصف قرن، شهد فيها ودعم ثورتى عرايى و 1919، وأطلق منظومة "مدارس الأحد" لتعليم النشء والشباب امور الدين، ودعم الكلية الإكليريكية لوجستياً وفكريا وعهد بادارتها لمؤسس مدارس الأحد "حبيب جرجس"، ليشهد الخطاب الدينى نقلة نوعية، من رافدين، مدارس الأحد والإكليريكية، وإن بقيت ندرة المراجع الارثوذكسية، المعربة، واحدة من معضلات هذا الخطاب حينها.
ما كاد القرن العشرين ينتصف حتى لاحت بوادر ثمار مجمل الجهود السابقة، عبر من تتلمذوا على حبيب جرجس وخريجى مدارس البابوين كيرلس الرابع وكيرلس الخامس، افندية تلك المرحلة، وقد تخرجوا لتوهم فى الجامعات المصرية، طيف منهم ذهب الى المصادر التى ترجمت يونانية الآباء الى لغات حية، بينما عكف طيف آخر على التعريب عن اليونانية مباشرة، ليشهد الخطاب القبطى الارثوذكسى نقلة نوعية فارقة، وفى اعطافها مواجهة لم ترق وقتها للصدام بين التوجهين، ويشهد الخطاب المؤسسى طفرة بقدوم أحد ابرز شباب ذلك الجيل إلى منصة التعليم ثم الى الكرسى البطريركى، الأنبا شنودة، اسقفاً للتعليم (1962 ـ 1972) ثم بابا للكنيسة (1972 ـ 2012)، ويشتبك مع الشأن العام، ويقدم وجهاً جديداً وطرحاً جديداً يقترب به من الشارع بلغة معاصرة تخلت عن الاشكال التقليدية للخطاب المفارقة للعصر والمحتشدة بمفردات الخطابة التى يصعب للمتلقى استيعابها، كانت لغته أقرب الى لغة الصحافة، فحقق انتشاراً سريعاً وأسس لمدرسة السهل الممتنع.
وكان ممثلاً للطيف الذى تشكل ذهنه وتتلمذ على الترجمات بلغات وسيطة.
فيما كان الأب متى المسكين يقيم على الضفة الأخرى التى جمعت بين النسك الرهبانى التقليدى والتأسيس لتوجه التعريب المباشر عن اليونانية القديمة وما يدعمها من ترجمات باللغات الحية، وقد قطع فيها شوطاً كبيراً خلف وراءه العشرات من الكتب والمراجع الأرثوذكسية التى قام بتأليفها، وبالتوازى كان الدكتور نصحى عبد الشهيد يؤسس لعمل اكاديمى عبر مركز دراسات الآباء فى تواصل مباشر مع منابع ومصادر يونانية بتوسط اسفف ورئيس دير سانت كاترين بسيناء، فى مطلع ستينيات القرن المنصرم.
ربما تكمن ازمة الخطاب القبطى الأرثوذكسى اليوم في تصاعد المواجهات بين المدرستين، والتى شهدت السنوات الأخيرة لكلا الرمزين بعض منها، والتى تفاقمت بين المريدين لهما بعد رحيلهما.
الأمر بات بحاجة ملحة لإعادة هيكلة آليات التعليم المؤسسية الرسمية بالكنيسة على اسس موضوعية اكاديمية، وفى مقدمتها منظومة الكليات اللاهوتية التى تمد الكنيسة بالقاعدة العريضة من المعلمين (الكهنة والخدام) والمنظومة الديرية التى تمد الكنيسة بالصف الأول من قادتها (الاساقفة)، لوضع اسس موضوعية للخطاب الدينى القبطى الأرثوذكسى يجمع بين الأصالة والمعاصرة ومواجهة تحديات الانتقال من المجتمع الأبوى الى مجتمع ما بعد الثورة الرقمية، والذى سيطر على ذهنية الأجيال الجديدة وقفز بها فى فضاءات المعلومات وكسر قيود الرقابة والسيطرة والتوجيه الرسمى والمؤسسى، ويختلط فيه الغث والثمين، والصحيح والمدسوس، حتى نصل الى خطاب بنائى جسور يسهم فى تشكيل ذهنية الإنسان (القبطى) الجديد. في سياق تشكيل ذهنية الانسان العربى الجديد