د/ عايدة نصيف
نفيف تحدثت في مقالات سابقة منذ سنوات على أنه لابد من خارطة طريق ثقافية وخاصة في مصر والعالم العربى، وأدرك تماما أن الحديث عن الثقافة وعن المثقف وغير المثقف أمر يتطلب الدقة والعمق والقراءة المتسعة بكل جوانب الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ حيث تطرح عدة أسئلة هامة فيما يتصل بالوعى الثقافى للفرد.
أولها: من هو المثقف؟ وما الشروط التي من أجلها نستطيع القول إن هذا الفرد مثقف حقيقي؟ بل تحديد المصادر التي يأخذ منها المثقف ثقافته ومعارفه والتيارات الفكرية التي ينفتح عليها، والمسار الذي يحدده لمذهبه الفكرى، أسئلة كثيرة تطرح تجاه قضية الثقافة والمثقف.
ومن الأمور المؤسفة أن يوجد خلط عجيب بين المثقف من جهة والمتخصص الدقيق في مجال من مجالات العلوم الإنسانية من جهة أخرى، وهناك من يربط بين الثقافة وبين اعتناق أيديولوجيا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بل هناك أشباه المثقفين الجدد، الذين يأخذون من قضية الطائفية معبرا وجسرا ينطوي على أهداف أخرى شخصية، وبين هذا وذاك ضاع مفهوم الثقافة والمثقف وحدث نوع من الخلط لدى المُتلقي؛ بل شُوهت بعض المفاهيم وبَعدت عن مفهومها الأصلي؛ ولذا يجب الانتباه إلى كل هذا الخلط وتحديد من هو المثقف؟ ومن ثم التفرقة بين المثقف وبين من يرتضى لنفسه الجهل.
فنحن نعيش عزيزي القارئ في عالم متغير يمتلئ بالعديد من المذاهب الأدبية والاجتماعية والفنية والسياسية والفرد لا يكون مثقفا إلا إذا ألمَّ بهذه الاتجاهات بصورة دقيقة، ولننظر إلى عصر التنوير في أوروبا بل ننظر إلى أقطاب الثقافة المصرية من أمثال أحمد لطفى السيد وطه حسين وسلامة موسى وكتابتهم التي قدمت رؤية مستقبلية في شتى المجالات الفكرية والاجتماعية والأدبية والفنية، نماذج للمثقف الوطني الواعي بأمور ومتغيرات عصره ومواكبة التطور نماذج دالة على الوعى الثقافي المصري والعلم وليست نماذج هشة تدعى الثقافة وتبحث عما تبحث عنه الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم.
وأرجع بك عزيزي القارئ إلى خصائص المثقف التي تتطلب أن يكون مستنيرًا ولا يكون منغلقا على ذاته ولا يقع أسيرا لكهفه، بل يجب أن يكون منفتحا على كل التيارات، وأن يكون عقله ووجدانه ثريا بالأفكار الأدبية والفلسفية، بل يكون موضوعيا لا يلجأ إلى التطرف الفكرى لأى مذهب كان أو طائفة أو اعتقاد يحب الحوار الهادئ المستنير، وأن يكون له وجهة نظر ورؤية عامة لمجتمعه بصورة شاملة فما أحوج مصر الآن إلى رؤية شاملة وعامة للمنظومة الثقافية التي هُزمت السنوات السابقة؛ وكانت من نتيجة الهزيمة الثقافية وظهور التطرف الفكرى والذي نتج عنه الإرهاب الفكرى أيضا، وكانت نتيجتها النهائية قتل الأبرياء.
فالمثقف الحقيقى يختلف سلوكه عن الآخرين في النظر إلى القضايا والإشكاليات؛ حيث يقرأ ويرى ما وراء السطور لأنه من المفترض أن يكون عنده رؤية نقدية واعية فلا يقف عند السطح بل يدرك الجوهر إدراكا حقيقيا حيث ولابد أن يكون للمثقف منهجية في القراءة وتحليل الأحداث، فلا يمكن أن يكون الفرد منا مثقفا بمجرد أن لديه معارف ومعلومات متناثرة وغير منظمة؛ بل يجب أن يبتعد المثقف عن كل ما هو خُرافي وأسطوري وذاتي وطائفي ويكون على صلة وثيقة بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ أي يعيش وينفعل باللحظة التاريخية لهموم الفكر والوطن، ويقدم رؤية مستقبلية تنطلق بصورة كبيرة من الواقع المُعاش حتى تكون له إسهاماته الفكرية لبناء مستقبل حقيقي للشعوب وللوطن.
واعتقادي عزيزي القارئ إذا تحققت تلك الصفات في المثقف فسوف يكون بالإمكان المساهمة في حل التحديات والمشكلات الموجودة بمصر وخاصة حل مشكلة التعليم؛ لأنه لا تعليم دون ثقافة حقيقية، وحل مشكلة التطرف الفكرى والقضاء على الإرهاب فلابد للمثقف الحقيقي أن يسأل نفسه ماالدور الذي أستطيع أن أقوم به في مجتمعي؟ وكيفية الربط بين القضايا الفكرية وبين أحداث المجتمع؟ وأتذكر هنا الفيلسوف الإنجليزي "برتراند رسل" في دراسته للتاريخ؛ حيث ابدع في ضرورة إظهار صلة الفكر بالواقع والمجتمع..
نعم يجب علينا أن نربط بين الفكر وحل قضايا المجتمع؛ فمصر تحتاج الآن مع البناء في مجالات متعددة أن تواجه الهزيمة الثقافية وعلينا أن نستنهض أمثلة ونماذج في تاريخنا المعاصر من أمثال د.على مشرفة، وأحمد أمين، وسلامة موسى، ولويس عوض وغيرهم من الأمثلة والنماذج المصرية الأصيلة.