بقلم : فاروق عطية
لم يكن حريق القاهرة الذي اندلع في يوم 26 يناير 1952م بيد الأخوان المسلمين، والذي قضى خلال ساعات قليلة علي نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادي في شوارع وميادين وسط البلد حرقا، ليس الحريق الأول للقاهرة المحروسة عاصمة مصر الحبيبة، بل كان هناك حريق أخر قد سبقه في عهد الملك الناصر قلاوون تاسع سلاطين المماليك البحرية.
بعد أحداث هدم الكنائس المؤسفة التي ذكرتها في المقال السابق والتي نتج عنها هدم مئات الكنائس والأديرة في شمال مصر وجنوبها، ويحصِي المقريزي عدد الخراب الذي حدث للكنائس والأديرة كالآتي: "كنيسة في خرائب التتر لقلعة الجبل وكنيسة الزهري في الموقع الذي فيه بركة الناصرية، وكنيسة الحمراء وكنيسة السبع شعايات وكنيسة بحارة الروم وكنيسة البندقايين، وكنيستان بحارة زويلة، وكنيسة بخزائن التتر وكنيسة بالخندق، وأربعة كنائس بثغر الإسكندرية وكنيستان بدمنهور وأربع كنائس بالغربية وثلاث كنائس بالشرقية وستة كنائس بالهناوية وبأسيوط ومنفلوط ومنية الحطب وثمان كنائس بقوص وبأسوان إحدى عشر كنيسة وبأطفيح مركز الجيزة كنيسة وبقصر الشمع ومصر القديمة ثمان كنائس وضرب من الديارات شيء كثير وظل دير شهران ودير البغل مدة ليس فيهما أحد من الرهبان، وقد هلك من الأنفس وتلف فيها من الأموال وخرب فيها من الأماكن ما لا يمكن وصفه لكثرته، بالإضافة إلى ذلك صدرت الأوامر بمنع النصارى من التظاهر بالأبهة وركوب الخيل والتجمل بلبس الثياب المصقولة والعمائم البيضاء".
لم تمض أكثر من ثلاثين يوما علي تلك الخرائب حتي ظهر فجأة حريق هائل في القاهرة وصار يمتد وينتشر بسرعة حتي كاد أن يلتهم أنحاء القاهرة كلها.
وكان الاعتقاد السائد أن هذا الحريق من فعل الأقباط المسيحيين كنوع من الانتقام لهدم كنائسهم وأديرتهم وظلوا يراقبون ذلك.
وبعد قليل قبض على إثنين وجدا خارجان من مدرسة عقب اشتعال النار بها فأُعلم السلطان بذلك فأمر بتعذيبهما لتظهر الحقبقة، كما قبض علي رجل آخر وجد بالجامع الظاهر ومعه أكياس فيها نفط وقار، وبتعذيبهم اعترفوا بأنهم رهبان من دير البغل بجهة طره وأنهم مع سبعة عشر راهب آخرين قد تعاهدوا على إحراق القاهرة والفسطاط انتقامًا من المسلمين على هدم كنائسهم، أما بابليون فقد آلوا علي أنفسهم ألا يمسوها بضرر لأن جميع سكانها من الأقباط المسيحيين ولم تصب كنائسها بضرر.
وفى خضم تلك الحرائق اندلعت النار في دار القاضي كريم الدين"وهو من عائلة قبطية الأصل أسلمت منذ مدة"، فاستدعى إلية بطريرك الأقباط ليلا بعد موافقة السلطان، لأنه يعلم أن أي قبطي مسيحي لا يمكنه الإقدام على أي فعل دون مشاورته، وليطلب منه أن ينصح رعيته أن يكفّوا عن مثل هذه الأفعال حتي تنقشع هذه الغُمة.
وعندما حضر البطريرك واجهه بالرهبان مرتكبي حوادث إشعال النبران في الجوامع والدور، الذين اعترفوا أمام البطريرك أنهم توافقوا علي إحراق المدينة إنتقاما لحرق الكنائس والأديرة، فبكي البطريرك بين يدي القاضي قائلا "إنما هذا فعل سفهاء المسلمين والنصارى ولا لوم للحكومة إذا أدّبت مرتكبيها فُسُرَّ كريم الدين بهذا الجواب الذي أزال الشك من جهة تواطؤ النصارى عمومًا على إيقاع الأذى بالمسلمين، وأمر بإعداد بغلة يركبها البطريرك في العودة إلى داره في حراسة فرقة من العسكر للحفاظ على سلامته.
وفى صباح اليوم التالي بينما كان القاضي كريم الدين سائرًا إلى الديوان حسب عادته سخط عليه العامة واتهموه بالكُفْر واجتمعوا حوله وأحاطوا به وأوسعوه سبًا وشتمًا ورجما بالحجارة متهمينه بأنه بناصر النصارى بعد أن ثبت له إدانتهم على إحراق بيوت المؤمنين، فلم يعبأ بهذه المظاهرة ولا بهذه التهديدات وظل سائرًا في طريقه إلى أن وصل إلى دار السلطان وأعلمه بما تحقق من أن هذه الحرائق لم تكن إلا من بعض سفهاء النصارى الذين أرادوا الانتقام من المسلمين على ما ارتكبوه ضدهم من الفظائع، فأمر السلطان بالتشدد في تعذيب الرهبان المقبوض عليهم ليعلم إذا ما كانت هذه الأفعال بموافقة ومشاركة بعض الأغنياء من الأقباط المسيحيين أو أصحاب النفوذ منهم أو هو قاصر على بعض الرهبان كما يزعمون، ولكن الرهبان استمروا يحتملون العذاب بصبر، ولما لم يتحولوا عن كلامهم أرسل السلطان من هجم على دير البغل وأتى بكل من فيه من الرهبان وأمر بحرق أربعة منهم أمام ذلك الجمع المحتشد ، ولكن لم يشف ذلك غليلهم بل كان محفزا لتجرّؤ العامة وانفجار بركان غيظهم، وجالوا يبحثون عن الأقباط المسيحيين في كل مكان ليوردوهم موارد العذاب دون أن يراعوا أوامر الحكومة، فهجموا على بيوتهم ونهبوها وقتلوا من بها بغير رحمة، ومن هرب منهم قتلوه في الطريق وكانوا إذا عثروا على واحد منهم في الشوارع يسلبونه ماله ويذبحونه، وقد أدت بهم الجرأة إلى معاتبة السلطان في وجهه مستنكرين معاملته النصارى بالرفق الذي أدي إلى تعاظمهم وترفعهم على المسلمين.
وفي صباح يوم حينما كان السلطان نازلا من القلعة إلى الميدان كعادته وجد الطريق غاصا بالناس وعندما رأوه صاروا يصرخون ويستحلفونه بالله أن ينصر دين الإسلام. وحين وصل اإلى الميدان فاجأه رئيس الشرطة بخبر أن الناس قد قبضوا علي مسيحيين وهما يشعلان النار في أحد بيوت المسلمين، وكان السلطان في غاية الكدر مما لاقاه في الطريق فأمر بإحراقهما أحياء أمام المتجمهرين دون إبطاء.
وبينما هم يحرقونهما إذ بكاتب ديوان الأمير "بكتمر الساقي" قد مر يريد مولاه وكان نصرانيًا، فعندما عاينه العامة ألقوه عن دابته على الأرض وجردوه من جميع ما عليه من الثياب وحملوه ليلقوه في النار، فصاح بالشهادتين واعتنق الإسلام! فأطلقوه ،
عندما علم السلطان بما حدث للقاضي كريم الدين من الإهانة والقذف بالحجارةغضب غضبا شديدا وأمر أربعة من الأمراء أن يطوفوا في المدينة بعساكرهم من الميدان لباب زويلة فباب النصر ويقتلوا كل من يجدوه من هؤلاء المعربدين، وكذلك أمر رئيس الشرطة أن يذهب إلى باب اللوق وشاطئ النيل ويقيض دون تمييز علي كل المعتدين علي القاضي كريم الدين ويأت بهم إليه في القلعة، وأقسم أنه إذا لم يأت بهم لابد أن يشنق بدلا منهم.
ولما سمع الناس ذلك اختفوا وتواروا من الطرقات.
وعاد رئيس الشرطة ومعه نحو مائتي رجل جمعهم من بولاق وشاطئ النيل، فأمر السلطان بشنق بعضهم وقتل البعض وقطع أيدي الباقين فبكوا بكاءا مرا مقسمين أنهم ليسوا ممن تعدوا على القاضي كريم الدين، فلم يعبأ السلطان بأيماناتهم وأصر علي تنفيذ ما أمر، فقطعت أيدي ثلاثة منهم في حضرته وعُلّق البعض وأمر أن يبقوا معلقين حتي يكونوا عبرة للآخرين.
وكان كريم الدين غائبا ذلك اليوم ولما عاد ورأى جثث المنكوبين معلّقة وبالقرب منهم من قطعت أيديهم والذين في انتظار تنفيذ حكم السلطان، دخل إلى السلطان وألقى عمامته إلى الأرض وجثى علي قدميه قائلا: ربما كان هؤلاء صادقين في أقوالهم يا مولاي وأنهم ليسوا ممن رموني بالحجارة.
وظل يستعطف السلطان ويتذلل إليه حتي سمح بنزول جثث المعلقين وإبدال قتل الباقين بالأشغال الشاقة في تشييد الجسوروالصناعات مدي حياتهم.
لم يدم الهدوء أكثر من أسبوع حتي وصل إلى السلطان خبر اشتعال النار في جامع أحمد بن طولون وأُشيع أن وراء الحريق النصاري الذين مازال السلطان مبقي عليهم في وظائفهم بدواوين الحكومة، فازداد غضب السلطان وأمر بقتل كل من يتجمهر في الطرق نصرانيا كان أم مسلما مما حفز المسلمون علي قتل المزيد من المسيحيين انتقاما.
تحصن المسيحيون في بيوتهم ومن دعت الحاجة به للخروج يتم القبض عليه إدعاءا أنه كان يشرع في حرق جامع أو منزل.
ولما رأي السلطان تزايد نار الفتنة وأن إحراق المسيحيين أمام العامة غير كاف لتسكين غضبهم ، وكان يعلم أن أن معظم هذه الفتة مبني على الطمع في أموال النصاري وممتلكاتهم فأرسل مناديا ينادي بين الناس أن من يجد نصرانيا ويقدر عليه ويقتله فله ماله.
ولما كان معظم أغنياء المسيحيين يقطنون بابليون المحصنة ولم يقدروا على مهاجمتها اقتصروا على نهب بيوت المساكين في القاهرة وضواحيها.
وبعد أن هدأت الأمور أصدر السلطان عفوا عاما وأمر بوضع قانون محكم يسير النصارى بمقتضاه، كما أمر بغلق جميع الكنائس وبقيت مغلقة أكثر من سنة ونصف حتي توسط ملكي أسبانيا والقسطنطينية، فأذن السلطان بفتح كنيستين أحدهما للأقباط الأرثوذكس والأخري للروم الأرثوذكس.
ولما علم ملك الأحباش بما حل بنصارى مصر أرسل رسولًا بكتاب منه إلى السلطان يعاتبه فيه على هدم الكنائس وقتل الأبرياء ويذكره بالمعاهدات التي بين أسلافه ملوك مصر السابقين، وطلب منه أن يعيد بناء ما خربه، وإلا سوف يقوم بهدم جوامع المسلمين التي في بلاده، إلا أن السلطان أعاد الرسول بلا جواب. وبعد مضي فترة بعد أن هدأت الأحوال وعودة النظام صَرَّح للنصارى بأن يبنوا بعض الكنائس التي هدمت بناءً على طلبهم، بشرط ألا يتوسع فيها أو يزيد عليها شيئًا، غير أن بعضها هدم بعد إعادة بناءه بدعوى أنهم زادوا على ما كانت عليه قديمًا أو أضافوا إليها بعض الزخارف أو إعلاء مناراتها كما حدث في إعادة بناء كنيسة القديسة بربارة