الأنبا إرميا
تحدثنا في مقالة سابقة عن وضع حجر الأساس لمدينة «القاهرة»، ثم البَدء في بناء جامع «الأزهر»، كما ذكرنا حملة القائد «جوهر الصِّقِلِّىّ» إلى «فلسطين» و«الشام» وإخضاعها للحكم الفاطمىّ. وجاء حكم «جوهر الصِّقِلِّىّ» على «مِصر» حتى قدِم الخليفة «المُعِزّ لدين الله» الفاطمىّ وتحول حكم البلاد إليه وصار «جوهر» من كبار قواده حتى حدثت وقيعة بينهما، إذ إن عددًا من المؤرخين يذكر أن العَلاقات بين «المُعِزّ لدين الله» والقائد «جوهر» قد ساءت- وسنذكر ذلك في محله. ويُذكر أنه في السنة الثانية من حكم «جوهر»، مرِض الخليفة العباسىّ «المطيع لله» وثقُل لسانه.
«المُعِزّ لدين الله الفاطمىّ» (٣٦٢- 365هـ) (٩٧٢– 975م)
هو «أبوتميم مَعَدُّ بن المنصور العُبَيدىّ» الفاطمىّ الملقب بـ«المُعِزّ لدين الله»، وقد تولى أمور الحكم بإفريقية («تونُِس» أو «المغرب») بعد موت أبيه «المنصور»، فقد ذكر «ابن خَلِّكان»: «وكان (المُعِزّ) قد بُويع بولاية العهد في حياة أبيه (المنصور إسماعيل)، ثم جُددت له البَيعة في يوم الأحد السابع من ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة»؛ وهو رابع الخلفاء الفاطميِّين في «المغرب» وأولهم في «مِصر».
كانت «مِصر» دائمًا في ذهن «المُعِز»: فكان يتابع أمورها وأخبارها حتى أدرك أن فرصة فتحها وضمها إلى حكمه قد باتت قريبة المنال؛ فأرسل قائده «جوهرًا» على رأس جيشه- كما ذكرنا- وفتحها له ثم بنى مدينة «القاهرة»؛ وهٰكذا أصبحت الأمور معدة لاستقبال الخليفة. فجاء «المُعِزّ» إلى «مِصر»، وأقام في القصر الذي بُنى له، متوليـًا شُؤون حكم البلاد، فيذكر «ابن تَغرىّ» عن ذلك: «وخرج (المُعِزّ) من (المغرب) في سنة إحدى وستين وثلاث مئة، بعد أن استخلف على (إفريقية) (بُلُكِين)... وجَدّ (المُعِزّ) في السير في خزائنه وجيوشه حتى دخل (الإسكندرية) في (شعبان) سنة اثنتين وستين وثلاث مئة... ثم نزل بـ(الجيزة)، وأخذ جيشه في التعدية إلى (مِصر)، ثم ركب هو ودخل (القاهرة)، وقد بُنيت له بها دُور الإمارة، ولم يدخل مدينة (مِصر) (مصر القديمة). وكانوا قد احتفلوا وزينوا (مِصر) بأحسن زينة...». وقد ذُكر أن «المعز» قد خرج في اليوم الثانى لاستقبال من قدِموا لتهنئته.
ولم يطُل حكم «المعز» في «مِصر» فقد قضى بها ثلاث سنوات فقط، إذ تُوُفِّى عام ٣٦٥هـ (٩٧٥م). وكان الخطر الأكبر الذي تصدى له «المُعِزّ» هو «القرامطة»، فقد قام بوقف المال الذي كان يقدمه «على بن الإخشيد» إلى «القرامطة»، فساء الأمر في عينَى كبيرهم وسار إلى الخليفة العباسى «المطيع بالله»، مطالبـًا بأن يوليه «مِصر» و«الشام»، ويمُده بالمال والسلاح لمحاربة «المُعِزّ لدين الله»، لكن الخليفة لم يقبل، إلا أن بعض المؤرخين يذكرون أن «عز الدولة بَخْتِيار» كبير الوزراء قدّم له مالًا وسلاحـًا. تحرك «القرمطىّ» بجيشه نحو «مصر» فخرج إليه «المُعِزّ»، ووقعت بعض الاشتباكات بين الفريقين أدت إلى عودة «المُعِزّ» إلى «القاهرة»، وقيامه بإرضاء «القرمطىّ» بالمال، فعاد برجاله إلى «الشام» ومات بـ«الرَّمْلة»، وهدأت تهديدات القرامطة على «المُعِزّ».
أما عن شخصية «المُعِزّ لدين الله» منذ نشأته، فيذكر الأستاذ «حسن إبراهيم»: «ولما كان (المُعِزّ) على شىء كبير من الذكاء، عمِل على تعلم كثير من اللغات؛ فتعلم اللغة الإيطالية القديمة (اللاتينية)... كما تعلم اللغة الصِّقِلِّية... واللغة السودانية... كما تعلم (المُعِزّ) لغة البربر...»؛ ولم يكُن بعيدًا عن أمور الحكم، إذ كان والده «المنصور» يُشركه فيها لِما عهِده فيه من فطنة وسداد الرأى. أما عن خلافته وحكمه، فـ... فالحديث في «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم