بقلم: د. يحيي الوكيل
الانتحار هو أقصى انتهاك للجسد، وبيد صاحب أو صاحبة هذا الجسد، بحيث يؤدي إلى الدمار الكامل والموت لمن قام بهذا الفعل. وقد اتفقت الديانات الإبراهيمية الثلاث بكل طوائفها على تحريمه وعد من يقوم به كافرًا.
لا شك أن كل من يقرأ ما سبق متفق تمامًا مع ما أوردت، ومن لا يوافق على التعريف السابق ونواتجه فلا حاجة به لأن يكمل قراءة هذا المقال..
لكننا سنختلف مع الواقع أو نكذب على أنفسنا لو سلمنا بما سبق على أنه حقيقة مطلقة– بالرغم من أنه يبدو كذلك- ودعوني أسرد عليكم سلسلة من الوقائع التي حدثت فعلًا لنحكم على قدر الصدق الذي يتعامل به العقل الجمعي المصري مع واقع حياتنا.
في العصر المملوكي قام حريق في حمام عام للنساء فهرب البعض عرايا للطريق، ولكن تغلب حياء بعض النساء على ضرورة الفرار من النار واخترن أن يمتن حرقًا– وهذا انتحار بكل ما تحمل الكلمة من معنى– على أن يكشفن أجسادهن العارية لأغراب في الطريق، وصارت فعلتهن مثلًا يقول "اللي اختشوا ماتوا"، مع أن تصرُّف من هربن هو أقرب للعقل وحتى للدين الذي يبيح المحظور في حالة الضرورة، إلا أن العقل الجمعي المتشبع بذكورية حجرية متخلفة لحد التعطن لم يقبل ممن هربن الفعل العاقل وأضفى الفضيلة على من انتحرن بكل غباء.
وفي هذا كل النفاق. فلو أن الحريق كان في حمام للرجال وهرب الرجال عرايا لما لامهم أحد، لكن النساء يملكن أجسادًا تفوق التقديس عند من يفكرون بأنصافهم السفلى– هذا لو كانوا يفكرون أصلًا– ومن أجل هذه الأجساد فليذهب المنطق والعقل والإنسانية بل والدين إلى الجحيم.
في السنوات الماضية اُبتلي العالم، وخاصة في منطقتنا الشرق أوسطية، بظاهرة المفجرون الانتحاريون من الإرهابيين، وهم طبعًا انتحاريون؛ لأن ما يفعلونه ينطبق بالضبط على تعريف الانتحار المقدم عاليه، والذي أنت موافق عليه بالضرورة إذا كنت قد وصلت لهذا السطر في المقال، لكن من يدفعونهم لهذه الأفعال يسمونهم بـ"الاستشهاديون"، ويقنعونهم بأنهم كذلك فعلًا قبل القيام بأفعالهم الإرهابية.
وفي هذا كل النفاق؛ فكيف يكون شهيدًا من مات كافرًا؟ وهم كفار؛ لأنهم لم يموتوا في نزال لديهم فيه فرصة للنصر والنجاة بل ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة. لكن الإظلاميون الذين يدفعونهم لهذه الأفعال يمارسون أقصى درجات النفاق عندما يسمونهم "شهداء"، والعقل الجمعي المتشبع بهمجية القتل ونشوة الدماء لحد العفن يفرح بهذه الأفعال، ويهلل لها، و يطنطن، ويضع هؤلاء "الشهداء" موضع الفخر والشرف، وأيضًا فليذهب المنطق والعقل والإنسانية بل والدين إلى الجحيم.
ومن شهور قليلة فجَّر "بوعزيزي" في "تونس" شرارة ثورة قلبت نظامًا باطشًا بأن حرق نفسه وانتحر بعدما زادت عليه ضغوط من القهر والظلم والعسف بلغت مداها في الصفعة التي تلقاها على وجهه من يد تلك الشرطية، فطبَّق المثل الشعبي الذي نقوله عندما يطفح بنا الكيل: "يعني أولع لكم في نفسي؟!"– وبينما نقولها عادة على سبيل التهديد فقط- لأن العقل يمنعنا عن فعلها- فعلها هو وانتحر، وكان لانتحاره تأثير موجات صادمة هزت طبقات الشعب التونسي الذي أحس بالألم الذي دفع "بوعزيزي" للانتحار، وهب ببساطة حتى لا يضطر كل تونسي للإحساس بمثل هذا الألم.
وصار "بوعزيزي" بثورته على الظلم التي انتهك فيها هو نفسه جسده لأقصى درجة بطلًا للثورة وشهيدًا، مع أنه منتحر! لكن العقل الجمعي الثائر قرَّر أنه "شهيد" فصار شهيدًا.. هكذا!.
وفي "مصر" تصاعدت في الأشهر التي تلت أحداث يناير سطوة الإظلاميين والتلفيين، ومارسوا قهرًا على كل حر الفكر أو مخالفه لهم بأي شكل، وطبعًا مارسوا قهرًا على النساء أكثر من غيرهن؛ لما في ثقافتهم البدوية الأصل من احتقار للنساء ونظرة حيوانية للعلاقة بين الرجل والمرأة التي هم بالأساس لا يفهمونها، وسأتطرق لها في السطور القادمة، وكان لابد لأحد من أن يثور على كل هذا القهر والتسلط.
فتاة شابة اسمها "علياء" لم تطق القهر الممارس ضدها بسبب جنسها ولا أكثر، والنظر إليها على أنها نجسة وأنها عورة ممن يلوح أن بأيديهم زمام الأمور فعليًا إلى يصبح الأمر بشكل "رسمي"؛ وأخرجت من مخزنها الثقافي المصري مكنون المقولة التي نلجأ إليها عندما يفيض بنا الكيل والقائلة "يعني أطلع لكم من هدومي؟؟"، و"طلعت فعلًا من هدومها".
قامت "علياء" بانتهاك جسدها بنفسها لأقصى درجة عندما عرضته عاريًا على صفحات الفيس بوك، وهذا يمثل انتحارًا، وهو انتحار فعلًا على الأقل على المستوى المعنوي، لكن هل وصلت الرسالة من هذه المحاولة كما وصلت رسالة "بوعزيزي"؟
لا شك أن هناك الكثير من الموجات الصادمة التي أعقبت ما قامت به "علياء"، لكن وكما تعلمنا في الجيولوجيا فهناك موجات بانية وموجات محطمة ومدمرة– وفعلة "علياء" للأسف لم يأت عنها إلا النوع الأخير.. لم يفهمها أحد، وتعامل معها الكل بمبدأ "اللي اختشوا ماتوا" الذي اتفقنا مسبقًا على أنه ضرب من ضروب النفاق؛ فنزعوا عنها كل فضيلة، وألبسوها كل نقيصة وشر، ولم يفكر أحد أن يسبر غور الجرح النفسي الذي جعلها تنتهك نفسها هذا الانتهاك.
أما من توجهت إليهن من بنات جنسها فلم يختلف رد فعلهن كثيرًا عن رد فعل الجنس الآخر؛ فلم تُحرِّك فيهن ثورة كما فعل انتحار "بوعزيزي"، بل غلبت العقلية الذكورية حتى على تفكير الإناث، ونظرن لفعلتها شذرًا بدل أن يكن هن من فهمن دوافعها والخطر الذي ألجأها للخروج عارية هربًا من نيران حريق الإظلاميين والتلفيين.
هي عندي فتاة مجروحة اقترفت انتحارًا..
فمن كان منكم قلبه قد من صوان، فليرجمها به
ثم أنه حدث ولا حرج عن النفاق؛ فأمامنا فعلّي انتحار لـ"بوعزيزي" و"علياء"، رفعنا فيها الأول لمرتبة القديسين، وخسفنا بالثانية خسفًا للدرك الأسفل من النار؛ لكن لأن الفعلة الأولى سلمت السلطة للإسلاميين هللوا لها، أما الفعلة الثانية فتناهضهم وتفضحهم وتقاوم سطوتهم وتسلطهم وقهرهم صارت فاعلتها من الشياطين.
الأخطر دلالة في كل هذا هو العقلية التي تتعامل بعشرات المكاييل مضحية بكل قيم الحق والخير والعدل، والتي تجدها في جنسي المجتمع وليس في ذكوره فقط، والتي انهارت على صورة عارية نشرت على الفيس بوك. والغريب أن غيرها الكثير على النت، لكن هؤلاء العاريات لسن "من بنات القبيلة"، فلا بأس من انتهاك أجسادهن.
لابد من علاج هذا الهوس الجنسي والذي لا يترك مجالًا لفهم الحب كقيمة وممارسته كمشاعر وأحاسيس.
لن ينصلح حالنا؛ لأن المجتمع يربي الأولاد ليكونوا ذكورًا فقط، ينظرون للجنس الآخر على أنهن مجرد إناث في قطيع فلا يشغله منهن غير المتعة والجنس، وهو المفهوم البدوي الذي تسرَّب للثقافة الإسلامية، حتى اعترف بها أحد أقطاب "الاعتدال" الإسلامي وهو الشيخ "الشعراوي" في تفسيره لآيات القرآن، عندما قارن بين شراء المرء مسدسًا لعبة لابنه وبين شراءه حلقانًا وسلاسل لبناته "لأنهن خلقن للمتعة" بنص كلامه.
ربوا أولادكم ليكونوا رجالًا، يحترمون النساء ويفهمون أن العلاقة الحميمة هي أعلى درجات ممارسة الحب وليست فقط ممارسة للجنس كما البهائم. علموهم أن يكونوا رجالًا يحمون النساء ويحبوهن ولا ينظرون إليهن بشهوة فارغة أو في دونية حقيرة. علموهم الشجاعة أصل كل الفضائل لكي يزهوا أمام نسائهم بفروسيتهم وشهامتهم وصدقهم وعلمهم، وتزهوا النساء برجالهن. وربوا بناتكم على أنهن زهرات البستان ولكنهن برغم رقتهن أصل كل شجرة فيه، فهن لسن في مرتبة أدنى من الرجال بل فقط يختلفن ليتكاملوا معا.. ربوهن أيضًا على الشجاعة، ولا تربوا فيهن الاستكانة والضعف الذي يمحو الشخصية.
وقتها فقط لن نجد دعاوى لنقاب أو دعاوى للتعري.
ولن نحتاج لمنتحرين يقودون حركاتنا الجمعية، بل سيجمعنا العقل ويقودنا الضمير.