مراد وهبة
فى القرن العشرين انعكس تأثير العلمانية على اللاهوت المسيحى فإذا بأواخر الخمسينيات من ذلك القرن تبزغ حركة لاهوتية جديدة تسمى «اللاهوت العلمانى» ومن روادها توماس التيزر ووليم هاملتون وجبريل فاهانيان. وبزوغ هذا اللاهوت العلمانى مردود إلى سببين: الثورة العلمية والتكنولوجية، رفض تقبل أى عناصر خفية فى الوجود الإنسانى على النحو الذى كانت تتقبله المسيحية التقليدية. وقد واكب هذا البزوغ للاهوت العلمانى رفض فصل بين ما هو مقدس وما هو علمانى، أو بالأدق تكييف المقدس للعلمانى بدعوى أن الله محايد فى المجال الاقتصادى كما هو محايد فى المجال الكنسى.
وفى عام 1966 نشر توماس التيزر مع وليم هاملتون كتابًا بعنوان «اللاهوت الراديكالى وموت الله». وعنوان الكتاب قد يوحى بأن الله قد مات، ولكن المقصود أن الله مات فى زماننا، وفى تاريخنا، وفى وجودنا. وفى رأيهما أن هذا هو ما تصوره نيتشه فى القرن التاسع عشر عندما أعلن فى كتابه «هكذا تكلم زرادشت» أن الله قد مات. بيد أن التيزر قد ذهب إلى أبعد من ذلك فتصور أن المفهوم التقليدى عن الله من حيث إنه منفصل عن الكون المخلوق هو مفهوم مؤقت، وأنه مجرد إسقاط للاغتراب الذى يعانى منه الإنسان.
وقد آن الأوان لتجاوز هذا الاغتراب. أما المفهوم الجديد عن الله، عند التيزر، فمشتق من الديانات الشرقية، من نرفانا وتاو وأتمان وبرهمان، وكلها تعبيرات عما هو عالمى وعما هو ضد المفارق. ولهذا يرى التيزر أن غياب المفارق، فى الفكر الدينى الشرقى، ليس عيبًا فى أساليب هذا الفكر، إنما العيب هو فى غياب العالمية عن الفكر المسيحى. وهذا هو السبب الذى من أجله عجز الغرب عن فهم الديانات الشرقية.
أما هاملتون فيرى أن موت الله ليس حادثًا لحظيًا، إنما هو حادث تاريخى ثقافى حدث فى أوروبا وأمريكا فى القرنين الأخيرين. وكبديل عن هذا الموت يوصى هاملتون بقبول «العالم العلمانى» على أنه خير من الوجهة العقلية والأخلاقية فيدعو إلى إصلاح الفكر وتطهيره من الصيغ المسيحية التقليدية. والإصلاح ممكن مع نضج الإنسان، إذ عندئذ لن يُطلب من الله شىء يمكن للعالم أن يحققه.
وفى النصف الأول من القرن العشرين نشأت المدرسة الفرنسية فى علم الاجتماع بريادة إميل دوركايم الذى ركز فى أبحاثه على المقدس فى مواجهة العلمانى، إذ ارتأى أن جميع المعتقدات الدينية المعروفة تفترض تقسيم العالم إلى مجال مقدس ومجال علمانى. ويرى دوركايم أنه ليس ثمة كيان أو موضوع أو حادث هو مقدس، ذلك أن المقدس ما هو إلا تعبير أخلاقى ورمزى، وإن هو إلا إسقاط لجماعة اجتماعية.
ومعنى ذلك أن العمليات الاجتماعية تولد المقدس وتصونه، ومن ثم فإن تعريف دوركايم للمقدس يشير إلى أسلوب التفكير فى العلم وفى المؤسسات الاجتماعية. بيد أن هذا التعريف هو على الضد من رؤية ماكس فيبر إلى المقدس من حيث هو متجسد فى المؤسسات الدينية، وإلى ضرورة فحصه فى علاقته بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى. ومن هذه الوجهة فإن التعارض بين المقدس والعلمانى من حيث هو مصدر التغير الاجتماعى قد أصبح من أدوات تحليل الأديان.
نقلا عن المصرى اليوم