بقلم- شفيق بطرس
لو تعلمون كَم كان صراعي مع الدموع والأحاسيس والأشجان التي هاجمتني بكل قوة عندما فكّرت أن أكتب هذا المقال، فقد تسابقَت الخواطر والأفكار في ذهني وانحشرت كلها وتوقفت ولم أعرف كيف أبدأ ولكني أحاول كبداية أن أذكر المناسبة، وأود أن أستطيع تنظيم خروج خواطري ومشاعري بنظام حتى لا أتعب وأتعبكم معي.
البداية في بلد ريفية في وسط صعيد مصر، حيث تجري برشاقة ترعة صغيرة لكنها نظيفة وكأنها كانت بجمال نهر النيل بالنسبة لنا، طالما ما كُنا نمر من على جسرها المدقوق بعناية ومن حولنا قطعان الماشية والأغنام تسير متتابعة تهرول في رحلة العودة من الغيطان إلى المنازل والزرايب، كان الوقت وقت الغروب وكأنه يقول للجميع: الكُل عاد.. وكل ما فى الكون عاد.. فلاحين الحقول.. بهائمهم.. أغنامهم.. الحمير والجياد.. الكُل عاد.. وفي نفس الميعاد.. نزلت الشمس إلى أقصى نقطة في الأفق البنفسجي في آخر لحظات الغروب وقبل رحيلها وقد أحمرت عيونها من بكاء لحظات الوداع، وكأنها تركع أمام خالق الكون ومن خلفها رَكعت كل المسكونة والساكنين فيها لتحمد الخالق على عطائه طوال ساعات النهار.
كانت هذه هي كلمات أمى لي ونحن نتابع المسير على جسر الترعة الصغيرة المار من منزل جدتي إلى منزلنا، كثيراً ما تكررت هذه الرحلة حتى التصقت في ذاكرتي وحفظت كلمات أمي خلالها وكأنها صلوات موروثة من الفراعنة عشقتها وحفظتها عن ظهر قلب وظلت هذه اللحظات هى القوة السحرية التي تشدني في أي مكان وأي بلد من بلاد العالم إلى لحظات الغروب، أتذكرها في قرب نهاية كل يوم.
وتشاء السماء أن تنتقل أمى للأبدية في يوم 13 مارس في نفس لحظات الغروب التي عشقتها وجعلتني أعشقها من بعدها أيضاً وكأن السماء تريدني أن أتذكر رحيلها عن الدنيا في كل يوم لحظات الغروب، تذكرت كل الخواطر اليوم ومع اقتراب ذكرى وفاة أمي وعيد الأم من بعده ووقفت أتابع لحظات الغروب من مكان بعيد كل البُعد عن جسر الصُفصاَفية الذي كان يشق بلدتنا الصغيرة من غربها ويفصلها عن أحضان الحقول والمزارع.
واليوم في بلاد العم سام وقفت وسط أشجار البلوط والثلوج مازالت تغطي التلال والطُرقات وأغلب أشجار الغابة، وقفت أتابع غروب الشمس ولكن لم تستطيع كُل هذه الثلوج أن تبرد مشاعري الملتهبة وحبي إلى بلادي وذكرياتى مع أمي وبلدتنا الصغيرة وسط الصعيد.
تذكرت الأم والعطاء والإحتواء وتذكرت أجمل وأرق مشاعر رأيتها بنفسي عن أم مثالية تابعت حالتها بنفسي عندما كنت ضمن مجموعة لخدمة أخوة الرب، هذه الأم كانت تأخذ دعماً مالياً من الكنيسة ويذهب لمنزلها تاكسي صاحبه من الأخوة المتبرعين يأخذها للمستشفى لعمل غسيل الكلى وكانت تدفع كل مرة المبلغ نقدياً (كاش) للدكتور، كان يعود لها نفس الأخ صاحب التاكسي بعد عدة ساعات ليرجعها لمنزلها بعزبة من ضواحي شبرا الخيمة، وجدنا حالتها تسوء وتتضاعف مشاكلها الصحية وقد سمعنا ذلك من ابنتها وذهبنا لننقلها للمستشفى، عاتبناها وتساءلنا عن سبب تدهور صحتها، قالت وهي تحتضر: كنت آخذ المبلغ وأحوشه ولا أذهب للكشف لأن العيد كان قد اقترب وقررت أن أسعد أبنائي بملابس جديدة وأطبخ لهم أشهى طبيخ لكي أرى الفرحة على وجوههم التي طالما ما كانت وجوه حزينة محرومة، تأسفت لنا الأم المثاليه وقالت الحمد لله حسيت إن أولادي مع إخوتهم ومش هايكونوا أيتام أبداً وأنتم من حولهم ولا أصحاب وجوه حزينه تاني، بعدها بدقائق فارقت الحياة ورحلت هذه الأم المثالية وتذكرت قصتها في نفس اللحظات التي تذكرت فيها أمي وقت الغروب، وقلت يالها من أجمل وأرق كلمة من كل كلمات اللغات.. كلمة (أم) هى كُل الرقة والأحاسيس الحلوة والمشاعر الجياشة والعطاء الغير محدود والبذل والتضحية.
ياليتنا نعطي كل محتاج وكل فقير نعرفه، نساعد كل مريض ومحتاج للدواء والعلاج لنفرح قلوبهم ونخفف عنهم أعبائهم ونشارك بعطاءنا هذا بلمسة حب وعرفان لكل أم تريد أن تسعد أبناءها وترسم البسمة والفرحة على وجوههم الحزينة.
ما أجملها مشاعرك وأنت تحس أنك ترسم الفرحة والبسمة على وجه طفل حزين، ما أجملها مشاعر حينما تتذكر كل رقة وحنان الأمومه حتى لو مرت بك الأيام والسنين وتعرف ملايين الكلمات وتعرف أن كلمة (أم) هي الوحيدة......... أروع كلمه وأرق إحساس.
مش كده ولا إيه