سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 8 مايو 1972م..
كانت القاهرة فى انتظار استقبال وزير الدفاع السوفيتى جريتشكو، يوم 14 مايو 1972، غير أن مفاجأة وقعت، جرى تفسيرها على أكثر من وجه، من بينها، أن الرئيس السادات يرتب أوراقه للانتقال إلى الحليف الأمريكى، بعد أن كانت موسكو حليفا لمصر فى عهد جمال عبد الناصر، وبلغت قوة العلاقة درجة استجابة السوفيت لطلب عبدالناصر فى زيارته لموسكو 25 يناير 1970 بإرسال خبراء عسكريين إلى الجبهة المصرية، لتدريب الأطقم المصريين على الأسلحة الجديدة التى تم الاتفاق عليها أثناء هذه الزيارة، استعداداً للحرب المقبلة ضد إسرائيل، يتذكر الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية فى مذكراته «حرب الثلاث سنوات»، وكان مرافقا لعبدالناصر فى هذه الزيارة: «فى جلسة المباحثات الختامية يوم 25 يناير 1970، أعلن بريجنيف «سكرتير الحزب الشيوعى» أن القيادة السوفيتية «اللجنة المركزية ومجلس السوفيت الأعلى»، وافقت على طلب الرئيس عبدالناصر، وهذه أول مرة يخرج فيها جندى سوفيتى من الاتحاد السوفيتى إلى دولة صديقة منذ الحرب العالمية الثانية.
كانت زيارة «جريتشكو» تالية لزيارة السادات إلى موسكو فى نهاية إبريل 1972، ويتذكر حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومى للرئيس السادات فى مذكراته، أمن مصر القومى وعصر التحديات: «كانت زيارتنا لموسكو فى نهاية إبريل مثقلة بهمومنا، مشحونة باعتبارات عدم الثقة من الجانبين، وكان من الطبيعى أن يعمل الجانبان معا من أجل تطويق احتمالات الخلاف، ولكن هذا لم يتحقق، وخيم على اجتماعاتنا جو أقرب إلى الكآبة.. لم يسبق لنا أن عهدناه، فلم يكن لقاء حليفين، ولم يكن يوفر ظروف العمل المشترك».
يذكر «إسماعيل» مفاجأة 14 مايو 1971 قائلا: «فى أوائل مايو وبمناسبة زيارة جريتشكو لمصر، أبلغنا السوفيت بوصول سرب قاذفات فى منتصف مايو، إلا أن حادثا وقع قبل وصول جريتشكو بأسبوع، عندما أجرى رجال الجمارك تفتيش أمتعة عدد من الخبراء بمطار القاهرة، وهم فى طريق عودتهم إلى الاتحاد السوفيتى، وكان الغرض هو التأكد من أنهم لا يحملون سلعا ذهبية، مخالفين بذلك، وعلى ذلك تعطل سفر الخبراء إلى ما بعد الظهر، حتى أمر الرئيس السادات، وكان يومها فى ليبيا، بسفرهم إلى بلادهم، ولم يتبين خلال هذا الحادث ما يؤكد شائعات «تهريب» الذهب من مصر.. فلم يكن الخبراء يحملون ما يزيد عن الهدايا الطبيعية التى يحملها السائح لعائلته».
يؤكد الكاتب الصحفى والباحث فى الشأن الروسى الدكتور سامى عمارة فى كتابه «القاهرة وموسكو.. وثائق وأسرار»، أن تلك الواقعة كانت إرهاصة أولى على خطط السادات للتوجه نحو الأمريكان على حساب علاقته بالسوفيت.. يستشهد «عمارة» بالجنرال «فاديم كيربيتشينكو» فى كتابه «من أرشيف رجل الكى. جى. بى»، مهام سرية، بقوله: إن الاتصالات السرية بدأت مع الرئيس الأمريكى نيكسون مبكرا، وأن بعض المشاهد الاستفزازية فى حق الخبراء الروس، ومنها واقعة احتجاز 71 خبيرا مع أفراد عائلاتهم فى مطار القاهرة يوم 8 مايو - مثل هذا اليوم - 1972، وتفتيشهم قبيل عودتهم إلى الوطن بحثا عما قيل إنه «ذهب مصر»، وعلى الرغم من أن السلطات المصرية لم تجد معهم سوى ما ابتاعوه من أقراط ودبل وحلى للاستخدام الشخصى، فإن الغرض المراد منه تشويه صورة السوفيت كان قد تحقق».
يضع أيضا السفير السوفيتى فى القاهرة وقتئذ «فلاديمير فينوجرادوف» هذه القصة فى سياق خطوات السادات للتقرب من أمريكا، ويتذكر فى كتابه «مصر من ناصر إلى حرب أكتوبر» من أرشيف سفير، ترجمة: أنور محمد إبراهيم: «فى مطلع عام 1972، تعرضت مجموعة كبيرة من الضباط السوفيت، كانوا فى طريق عودتهم إلى الوطن لتفتيش مهين فى مطار القاهرة، وكان الهدف من وراء ذلك كما صرح موظفو الجمارك المصريون إثبات صحة الشائعات السائدة التى تقول: إن الروس يقومون بتهريب كميات كبيرة من الذهب.. وبالطبع لم يسفر التفتيش عن وجود أى ذهب.. كان علينا أن نتخذ إجراءات حاسمة فى هذا الشأن بما فيها مخاطبة الرئيس نفسه، وفى مساء نفس اليوم اتصل بى السادات، وكنت وقتها فى ضيافة رئيس الوزراء عزيز صدقى فى بيته للتحدث فى بعض الأمور، قال لى السادات عبر الهاتف، إنه يشعر بالخجل أن يقرر شخص ما فى مصر «مكافأة» العسكريين السوفيت على هذا النحو غير اللائق على ما بذلوه من جهد مخلص، وطلب اعتبار هذا الحادث منتهيا وكأنه لم يكن، أى أنه بهذا قدم اعتذاره بالفعل».
إذا كان السادات يعتذر على هذا النحو، فمن المسؤول عما حدث، يجيب حافظ إسماعيل: رجح الكثيرون أن ما تم كان بتوجيه الفريق محمد أحمد صادق وزير الحربية الذى أراد قبيل وصول وزير الدفاع السوفيتى أن يؤكد بقاء مشكلة الخبراء «حية»، ورجح الكثيرون أن يكون عام الدراسة الذى أمضاه صادق فى موسكو عام 1958، ترك لديه انطباعات غير حسنة تجاه السوفيت والعسكرية السوفيتية عامة، الأمر الذى لم يستطع صادق أن يتجاوزه، حتى بعد أن أصبح قائدا عاما»...!!