الأب أثناسيوس حنين
ما يراه المتابعون للخطاب المسيحى ’ اليوم ’ هو عدم القدرة على رؤية الالهيات فى الانسانيات ’ والاتيات فى الأنيات ’والثوابت فى المتغيرات ’ اذ هناك صراع قديم الأيام بين التعالى والتنازل ’ فاذا تعالى اللاهوت ’ فهو غائب عن الوجود ولا يصح أن يتنازل (عيب وكأن الانسان مكسوف بالنيابة عن ربنا وكأن كل نجاح انسانى هو اختلاس للمجد الالهى وكأن الله "كان حسودأ ’ حقودا وماكرا " لما يحققه الانسان من نجاح ’ واذا تنازل فهذا يشكل هترة للاهوت وقلة قيمة ’ هذا الصراع بين المتعالى والمتنازل ’ بين الدائم والزائل ’ بين الأن وهنا وغدا وهناك ’ عاناه تلاميذ المسيح بعد القيامة ولن يكون أخرهم توما ’ والذى التبس عليه أمر معلمه ’ وعاش الصراع الوجودى بين أيات وعجايب من تعالى وقيام وجراح والأم وجراحات من تنازل ’ ومن هنا طلب لمس علامات المتنازل لكى يؤمن بالمتعالى .
يبدوا أن الأباء الشراح قد عاشوا هذه الأزمة الوجودية فى فهم شخصية المسيح ’ فأنزلونا الى الواقع اليومى فى يوم الاثنين اللاحق لاحد توما بانجيل عرس قانا على أرض الواقع . لا يوجد واقعية أشد وضوحا من عرس شرقى فلسطينى يحضره يسوع وأمه وتلاميذه ومعازيم من كل أطياف المجتمع . أراد المسيح أن يؤكد تعاليه وسكناه اللاهوت من خلال تنازله ومعاشيته أهل العرس فى كل شئ ’ نكرر كل شئ .
ذهب يسوع وأمه وتلاميذه ’ لم يكلمنا يوحنا عن هوية أهل العرس لكن يبدوا أنه عرس اسرة متوسطة الحال ’ وهذا يبدوا من كثرة المعازيم ونفاذ الخمر سريعا ’لأن الأسر الغنية لا يفوتها الاستعداد الكافى والسخى للعرس (يوحنا 2 :1 -11 ) ’ ولكنه عرس شرقى بكل ما تحمل الكلمة الى اليوم من فرح وطبل وزمر ورقص وخمر وحسناوات يتسابقين للفوز بالنصيب الأكبر من اعجاب الحضور وربما عريس لقطة للمستقبل أو صبية شريكة حياة .
أعطى حضور يسوع وامه لهذه العرس جمالا وللطبل والزمر رقيا وللتصفيق رنينا وللموسيقى لحنا وطربا وللملابس عفة وأناقة بسيطة وبساطة أنيقة وللخمرطعما وجوديا جديدا أذا يرمز الماء للشريعة والناموس والخمر للحب .عرس قانا يمثل حقيقة الوجود الانسانى والذى يسعى لسبر غور هذا العرس الكونى الذى حوله حضور يسوع عرسا فصحيا جديدا .
عرس قائم على الخمر الجديد وما على الذين لا يفهمون معنى العرس الا أن يتعثرون بين الخمر والموسيقى وملابس النساء ورقص الصبايا وأغانى الحب التراثية وربما يظنون أن يسوع يحتقر امه قائلا لها "ما ولك يا أمرأة !"أو يشجع شرب الخمر الذى هو دواء الخلود فى مجتمع الكنيسة الجديد حسب الأنطاكى أغناطيوس .الجديد فى عرس قانا ’ نكرر ’ هو صورة الوجود فى أنسانيته ’ وهو حقيقة يسوع فى تنازله وتخليه واخلائه لذاته ليشاركنا فى كل شئ .
هذه العرس يتكون من نوعيات بشرية شارك كل منها العرس على طريقته ’ هناك من لم يـاتوا الى العرس ليفرحوا مع الفرحين ’ بل ليراقبوا تصرفاتهم ويسجلوا حركاتهم ويرصدوا سكناتهم ويفحصوا ثيابهم ويخترقون بعيونهم ثياب الصبايا وسلوكيات يسوع وتلاميذه حتى يصطاوهم بعثرة ! أى فى ذات فعل وجريمة الحب ! هولاء هم الأنانيون والمتمركزون حول ذواتهم والذين يتفننون فى حرمان أنفسهم وتابعيهم من بركة الفرح ! على وجوهم تعاسة الذات وسخط الحسد وسلاطة اللسان وعدم النسيان وعيون (تندب فيها رصاصة ) وذكريات الحسرة والندم وهم لا يكتفون بالفرجة على العرس بل يتفننون فى "الافتاء " عن أصول العرس وضوابط السلوك وشكل اللبس وزينة النساء وحرمة الخمر !!!
فى وقاحة منقطعة النظير لانه وان حضر الماء بطل التيمم أى أنه فى حضور رب العرس يبطل التنظير والفتاوى واسقاطات الانانية والذات المنتشية !وتظهر هذه الذات فى أن الأنانيون لا ينظرون الى وجه يسوع ومن خلاله يرون العرس ’ بل يتمعنون فى فضل يسوع عن تعاليه اللاهوتى ويقزموه فى انسان نبيى عابر لا يصح أن يشارك فى عرس شرقى ’ كم وكم اذا شجع الفسق بتحويل الماء الى خمر !. الأنانيون ’ منا ’ يصنعون شروخا بين الناس ويهدمون تناسق الجماعة ويقوضون المجتمع .
وهنا يختفون وراء الناموس أو القانون أو الشريعة , وبدلا من أن يفرحوا مع الفرحين بتحويل الماء الى خمر ’ يقومون بالتحقيق والتنظير فى كيفيه تحويله الماء ! الناموسيون يتفننون فى حرمان أنفسهم من رؤية العجيبة والفرح بالعرس ويحشرون أنفسهم فى سجن اسئلة تبدوا لهم توماوية ولكنها فى الحقيقة يهوذية ! هناك لحظات لا يصح فيها السؤال بل يجب فيها الفرح والشركة ومن ثم يحلو الحوار ويتعمق السؤال ويتحول من سؤالا ناموسيا عابرا الى سؤالا وجوديا ولاهوتيا باقيا ’ لأننا كلنا مدعوون للعرس القانوى فى حضور السيد ’ وما على المدعوين الا أن يقبلوا كل ما يقدمه كرم وسخاء الداعى !
ألانانيون فى العرس يرون الجميع أعداء وخصوم ومتبرجين وسكيرين وها يروحوا جهنم وبئس المصير !! الشئ العجيب أنهم قد يسكرون بالخمر "خفية" ولكنه ليس خمر الحب والشركة العلنى ’ بل خمر الخلاعة !وهنا نصل الى شريحة أخرى من الناس فى هذا العرس الوجودى ’ وهم المحبون والذين تطهرت قلبهم بالحضور اليسوعى وانجيله ’ فصارت عيونهم بسيطة بلا سذاجة وذكية بلا وقاحة وتوماوية بلا تشكيك وعلمية بلا تلفيق ولاهوتية بلا بدع ولاهوتو- ناسوتية بلا غربة عن هموم الانسان وأعلانات السماء .
هؤلاء هم الذين يرتلون مع العروس التى لا تكل من أن تطلب من تحبه نفسها وسط زحام عرس الوجود وتسأل عنه العلماء وتدخل جنته "كلمة الجنة كلمة كتابية"وتشرب وتسكر مع الأحباء (نشيد الاناشيد 5 )’. ويجب أن لا ننسى أن خمر العرس الجديد هو الروح السماوى روح يسوع ’ الروح القدس ’الروح النارى حسب مقارة المصرى الذى جعل العالم الأنانى يتهم تلاميذ المسيح يوم الخمسين بأنهم "سكارى" الى أن حسم أحد تلاميذ السيد هذه اللغط الأنانى والتفسير الأهوائى والاسقاطات الأنانية الناموسية فى شهادة صارت تاريخا لبداية الكرازة وقال " هؤلاء ليسوا سكارى كما تظنون لأنها الساعة الثالثة من النهار ..."أعمال 2 :17 ".
العرس يكشف نوعيات البشر ’ هناك الأنانيون الذين لا يشاركون بل يتفرجون ويغتاظون مع أنهم مدعوون ’ وهناك من يمثلون أنهم يشاركون ولكنهم يترصدون ويقننون ويفتون ويشرعنون ’ وهناك من يرون أن الخمر قد نفذ ويقررون المشاركة فى استمرار العرس ويقولون للسيد "ليس لهم خمر " ويطيعون كل ما يقوله لهم فى تسليم حبوب وحب مستسلم لا يلغى العقل بل يمحوه ليمتلئ بخمر الحب العاقل ’ الذى يصنع ثقافة العرس وحضارة الشركة ولاهوت الشهادة ’ ويضع اساسات المجتمع الجديد الذى يمتنع فيه الأنانيون وينحصر فيه الناموسيون ويسود فيه العشاق وأحباء الكلمة الحلوة المملحة والنظرات البريئة التى تنظر وتحب بلا حسابات وبلا مقابل "فنظر اليه وأحبه "’مرقس 10 :21 يسوع المسيح هو هو مؤسس حضارة الحب "من أول نظرة" !شهادة حب ترى فى الأخر ’ كل أخر مهما تعددت ركائبه وأفكاره وأنتمائاته ومستواه الاجتماعى والثقاقى ’ صورة المسيح القائم على حد تعبير الناسك الروسى وشريك فى مسيرة العرس الكبير ’ عرس الوجود الجديد والمتجدد .
الحب لا يفرق بين المعازيم ويقسمهم الى طوائف !.
الحب هو شركة كاملة فى العرس الكونى ’ شركة تكحل العيون بكحل البرأة والقلوب بنعمة الثقة والعقل بنعمة الفحص والبحث فلا ترى الا وجه العريس وفرحة العروسين وبهجة المعازيم وتترك الملك للمالك ولن يخيفنا أبدا ولن يرعبنا أن أخوة لنا فى الانسانية ! نعم أخوة لنا شركاء فى دعوة العرس ’من الشرق والغرب ’ قد قرروا فى لحظات غياب للعقل وضلال الفتوى وبريق القديي "دولاريوس" الذى يفوج نفطا بأن "يرموا كرسى فى الكلوب ويقفلوا الفرح الكونى " ’ لن نخافهم لأنه وببساطة ’ نحن نحبهم ’ولأن كلوبنا أو مصباح فرحنا هو نور الحياة الذى لا يقوى عليه ولا يعتريه الظلام ولا يطفئه الظلاميون ’ منا او منهم ’!والذين وان ظلموا فانهم لا يظلمون الا أنفسهم وان أظلموا لا يظلمون الا بيوتهم . نور الحب قام بالحقيقة قام .