فاطمة ناعوت
مرَّ الشهرُ الخطيرُ الذي شهدَ حدثين جَللين، يزلزلُ أحدُهما أركانَ الكون. ميلاد شاعر- رحيل شاعر. جاءنا الشاعرُ في ١١ أبريل، وتركنا قبل خمس سنوات يوم ٢١ أبريل، وبينهما سبعة وسبعون عامًا من الشعر والتغزّل في طمى مصر الطيب. ولكن هذا الرجل ليس شاعرًا، بل مجرّةٌ من الموسيقى وروح الشعر. كانت جيوبه مملوءة بالزيتون، بتعبير لوركا في أنشودة الفارس. العظيم الأبنودى'> عبدالرحمن الأبنودى.
لى معه موقفان لا أنساهما. أحدُهما في الثمانينيات الماضية وأنا طالبةٌ بكلية الهندسة. والآخر قبل رحيله سنوات. كانت اللجنةُ الثقافية بكلية الهندسة جامعة عين شمس قد استجابت لرغبتنا، نحن الطلاب، في عقد أمسية شعرية للعظيم الأبنودى'> عبدالرحمن الأبنودى، داخل حرم الكلية. ولبّى العظيمُ النداء. وكان حدثًا جللا من أمجاد حياتنا، ظللنا نتحدث عنه سنوات وسنوات. كنتُ في أولى عمارة، ولا أنسى ابتسامتَه الرائقةَ؛ ونحن، من فرط الطرب والمتعة، نقاطعه بعد كل فقرة حتى يُعيد. وكان يبتسم بحنوّ الأب ويعيد. نُردد معه الجوابات التي نحفظها عن ظهر قلب؛ فتهتزُّ جدرانُ المدرج من صدى صوتٍ عملاق من حناجر ألف طالب يوقّعون في نَفَس واحد: «وانشالله يا حراجى ما يورينى فيك يوم/ وانشالله تكون اتعلمت تردِّ جوام/ ومادام احنا راسيين ع العنوان/ والله ما حنبطل بعتان/ مفهوم../ أسوان/ زوجى الغالى/ لاسطى حراجى الجُط / العامل في السد العالى».
ولأنه عظيمٌ فقد رحّب بسماع «المواهب الشابة» من الطلاب. كان ذلك في مدرج «فلسطين» المهيب الذي يحتلُّ مكانًا بارزًا في واجهة مبنى الكلية العريق. بدأ الطلابُ يتوافدون على المنصّة يلقون محاولاتهم الشعرية. ولم أفكر أن أحذو حذوهم. فهل أقفُ أمام الهرم لأستعرض إمكانياتى ككوخ صغير؟! لكن زملائى دفعونى نحو المنصّة لألقى قصيدة في حضرة الأبنودى! وكان ذلك أعسرَ ما خُضتُ من امتحانات داخل جدران الجامعة. بعد قليل تلعثم، انتظم إيقاعُ صوتى، وألقيتُ قصيدتى. وحين انتهيتُ انتبهتُ إلى محنتى: «ها أنا أقفُ أمام الهرم، لا تفصلنى عنه إلا أمتارٌ، فماذا عساى أن أفعل؟! تقدمتُ لمصافحته أتعثّرُ في حيائى، ونثارُ كلمات تشبه الاعتذار تتعثّرُ على لسانى. فتقدّم نحوى واحتضننى وقال بلكنته الجنوبية الحُلوة: «انتى شاعرة يا بت، اوعاكى تسيبى الشِّعر!». وكانت شهادةً كبرى من شاعر هائل لصَبيّة تُجرّبُ الشِّعر. وظلَّتِ الشهادةُ تميمتى السِّرية. أُخرجها في خُلوتى لأتقوّى بها كلما انهزمتُ، وأستحضرُها فوق طاولتى كلما راودنى شيطانُ الشعرُ.
■ ■ ■
الموقف الثانى كان قبل خمسة عشر عامًا. كان الأبنودى ضيفًا في إحدى الأمسيات. وكنتُ أجلس على مقعد مواجه له. وبدأ في قصيدة «يامْنَة»! وما أدراك ما تلك القصيدة بما تحمل من وخزات شوك جارحة. وانسابت دموعى مع المقطع الذي يحكى فيها ردّة فعل العمّة العجوز حين جلب لها قطعة قماش لتخيطها ثوبًا جديدًا للعيد، ثم حين زارها في العيد التالى ولم يجدها:
«ولسه يامْنَة هاتعيش وهاتلبس/ لمّا جايب لى قطيفة وكستور؟/.../ طب ده أنا ليّا ستّ سنين مزروعة في ظهر الباب/ لم طلّوا عليا أحبّة ولا أغراب/ خليهم/ ينفعوا/ أعملهم أكفان!/ كرمش وشّى؟/ فاكر يامنة وفاكر الوش؟/ إوعى تصدقها الدنيا/ غش ف غش!/ مش كنت جميلة يا واد؟/ مش كنت وكنت/ وجَدَعَة تخاف منى الرجال؟/ لكن فين شفتونى؟!/ كنتوا عيال!/ هاتيجى العيد الجاى؟/ وإذا جيت/ هاتجينى حداى؟/ وهاتشرب مع يامنة الشاى؟/ هاجى يا عمة وجيت/ لا لقيت يامنة... ولا البيت!».
وجعتنى الكلمات، ووجعنى إلقاء الأبنودى الحارقُ السارقُ الذي لا يشبه إلا نفسَه. ولم أنتبه إلا ووجهى غارقٌ في الدمع؛ لم أستطع كبحه. فما كان من الأستاذ إلا أن مدّ يده إلى علبة المناديل الورقية، واستلَّ منديلا ليمسح دموعى بيديه الطيبتين قائلا جملته الخالدة: «والله يا عبدُالرُّحمن وبكّيت فاطنة الحلوة»، وهو حريص على نطق «فاطمة»، بالنون لا بالميم، كما ينطقها أهلُ بلدة «أبنود» الجنوبية ابنة «قنا» ابنة صعيد مصر. وحين انتبهت لدموعى وهو يربت على كتفى ليهدئ دمعي؛ خجلتُ، فهمستُ له: «أعملك ايه مانت بتكتب لى كلام يكسر صندوق القلب...» والعبارة من أحد جوابات «فاطمة أحمد عبدالغفار» لزوجها الأسطى «حراجى القط»، العامل بالسد العالى بأسوان، من إبداع عظيم الأغنية المصرية الأبنودى'> عبدالرحمن الأبنودى، الذي تحلُّ في أبريل ذكرى ميلاده العزيز ورحيله الموجع عن ديارنا إلى حيث عالم الخلود الأبدى، حيث يصدح ويغنّى ولا ينسانا، نحن عشّاقَه ومحبيه. أيها الأجملُ الأبهى في حياتك، والأكثر جمالا وحياةً في رحيلك، يا مخبى في عينيك السحراوى تملى حاجات، ارقدْ في سلام؛ ولا تنسنا! «الدينُ لله.. والوطنُ لَمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم