في الشهور الأخيرة من عام 2018، والشهور الأولى من عام 2019، وقعت عِدة مجازر جماعية، في ثلاثة بُلدان، في ثلاث قارات، ليهود ومسلمين ومسيحيين، ارتكبها شباب من ديانات مختلفة.
كانت المذبحة الأولى بواسطة أمريكى مسيحى ضد يهود أمريكيين، كانوا يُصلون في معبدلطائفتهم في مدينة بيتسبرج. وكانت الثانية بواسطة أسترالى مسيحى أبيض لمسلمين يُصلون الجمعة بمسجدين ببلدة كرايستشرش بجزيرة نيوزلندا. وكانت الثالثة بواسطة مُهاجر تركى مسلم ضد جمع من أهل هولندا، التي فتحت أبوابها له كمُهاجر.
ولا يبدو لأول وهلة أن هناك رابطًا ماديًا عضويًا بين مُرتكبى المذابح الجماعية الثلاث. فهناك احتمال، ربما واحد في المليار، أن يكون مُرتكبوها يعرف بعضهم بعضا، أو التقوا، أو سيلتقون مستقبلًا.
ولكن هناك أشياء تجمع الجزّارين الثلاثة. وأهم ما يجمعهم هو ما يمكن أن يطلق عليه عُلماء النفس والاجتماع فائض الخوف، أو فائض الكراهية Surplus Fear and Surplus Hate.
وكان ابن العم كارل ماركس، قد صاغ مفهوم الفائض، ليُشير به إلى نزعة الرأسمالى الجشع إلى استغلال العمال الكادحين البُسطاء. وبنفس المنطق والقياس هناك فائض من الخوف من المُهاجرين الغُرباء أو المُقيمين المختلفين في الدين أو اللون أو اللغة.
ويشترك مُرتكبو المذابح الثلاث ضد اليهود الأمريكيين، والمسلمين النيوزلنديين، والمسيحيين الهولنديين، في أنهم شباب في العشرينيات أو الثلاثينيات من العُمر، أي أنهم في المرحلة العُمرية التي تكون فيها قسمات النجاح أو الفشل في حياتهم العملية أو العائلية، أو الوجدانية قد اتضحت، فيُصيبهم ذلك بالقلق من الحاضر، والخوف من المستقبل. وفى غياب تأثير إيجابى مُضاد، فإن هذا الكم من الخوف ينمو ويتزايد، ويتحول إلى طاقة عدوانية حادة، تبحث لها عن مُتنفس، ويكون أي شخص أو جماعة ممَنْ يُبدون من الغُرباء أو المختلفين مُرشحين لأن يكونوا أهدافًا أو أكباش فداء، لصب جام الغضب عليهم.
وفى الغالب الأعم يُبرر المتطرف عدوانيته بأنها في سبيل تحقيق رسالة اتفادية لنفسه ولأهله من هؤلاء الغُرباء الأشرار.
وهكذا يتحول الضحية الأعزل أو الضحايا العُزّل إلى كباش فداء، يستحقون الطرد، أو القتل والإبادة. ويتعمق في قلب العدوانى المتطرف أنه مُنقذ، وصاحب رسالة مُقدسة لإنقاذ الأخيار، أي هو وأشباهه، من الأشرار الغُرباء المختلفين، في لونهم أو لُغتهم، أو دينهم، أو أصولهم، أو أصول آبائهم.
إن المُتطرف الذي يتقمص دور المُنقذ، قد يكون زعيمًا لمجموعة من أمثاله، مثل الصِربى ميلوسوفيتش، الذي قاد ميليشياتهم لإبادة المسلمين في البوسنة والهرسك في سبعينيات القرن العشرين، أو الفلبينى ماركوسى، الذي أباد بدوره آلاف المسلمين من مواطنى بلاده، لكى ينقيها عِرقيًا ودينيًا.
ويمكن أن يقوم مُتطرف، فرد، بنفس سلوك الصِربى ميلوسوفيتش، أو الفلبينى ماركوسى، وهو ما يطلق عليه الإعلاميون والجهات الأمنية تعبير الذئب المُنفرد Lone Wolf، كما في حالة الأسترالى بيرنتون تورنت، الذي عبر الحدود من بلده الأصلى أستراليا، إلى نيوزلندا، المُجاورة، بتدبير وتخطيط مُسبق لارتكاب مذبحة لترويع المسلمين، على أمل أن يُسارع مَنْ يبقى منهم على قيد الحياة إلى الفرار، والعودة إلى بُلدانهم الأصلية.
الغريب أن جدود ذلك الذئب المُنفرد، كانوا هم أنفسهم قد جاءوا إلى أستراليا ونيوزلندا، من أوروبا، كمُهاجرين ولاجئين، أو كسُجناء يقضون فترة الأحكام عليهم في العمل وتعمير المستعمرتين الإنجليزيتين. أي أنهم، أسلاف الذئب السفاح بيرنتون تورنت، كانوا هم أنفسهم غُرباء في وقت سابق.
وللأسف، فإن ذلك النمط السلوكى يتكرر مع مُهاجرين ولاجئين، فهم يُعانون من التفرقة والتمييز والاستغلال، على أيدى آخرين. ولكنهم بعد جيل (25 سنة) أو جيلين (50 سنة) بعد أن يستقر بهم الحال، يتحولون هم أنفسهم إلى جلادين ومستغلين للقادمين أو المُهاجرين الجُدد إلى بلادهم. أي أن ضحية الأمس يتحول إلى جلاد اليوم.
وقد حدث ذلك مع الموجات الأولى من المُهاجرين اللاجئين الأوروبيين إلى الأمريكتين. فقد أبادوا ما يُقدره المؤرخون بحوالى مائة مليون من السُكان الأصليين، الذين أطلقوا عليهم اسم الهنود الحُمر. ثم جلبوا من إفريقيا ما يقرب من عشرة ملايين إفريقى، اعتبروهم عبيدًا للبيع والتبادل والشراء، وقامت بعد ذلك حروب أهلية أمريكية وحركات اجتماعية رافضة للعبودية، حتى انتصرت جزئيًا، ثم حصل عبيد الأمس تدريجيًا على حقوقهم المدنية، إلى أن انتُخب واحد منهم رئيسًا لأمريكا نفسها، وهو باراك أوباما (2008-2016).
ويُخطئ مَنْ يتعامل أو ينظر إلى الغرب، كما لو كان كُتلة بشرية- ثقافية واحدة. فهو عالم مُتجدد ومتنوع من داخله، كما أن الشرق ليس كُتلة واحدة مُصمتة. بل لقد كان التنوع والتجدد في الغرب أحد أسباب حروبه الطاحنة والمُمتدة. ومنها حرب المائة عام بين إيطاليا وفرنسا، والحروب النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، والحروب بين فرنسا وألمانيا في أواخر القرن، ثم الحربان العالميتان في النصف الأول من القرن العشرين. وينطبق نفس الشىء على الأمريكتين.
وفى المقابل لا ينبغى أن ننسى أن ذلك الغرب حمل لنا وللإنسانية جمعاء، من أفكار وقيم الحداثة والتقدم، ومن المخترعات والابتكارات ما نقل البشرية كلها نقلات نوعية هائلة إلى أعلى وإلى الأمام.
بل لقد انطوى الحادث المأساوى لمذبحة الخمسين مسلمًا في مسجدى مدينة كرايستشرش النيوزلندية على نفس المُفارقة الصارخة. وهكذا لا ينبغى التعميم المُخل، سواء عن الغرب أو عن أنفسنا، وإنما ننظر على السياق كاملًا بكل تنوعاته وتشعباته، وإلا وقعنا في نفس العُنصرية التي نتهم بها الآخرين.
والله أعلم
وعلى الله قصد السبيل
نقلا عن المصري اليوم