فاطمة ناعوت
إذا كان النيلُ شريانَ مصرَ الذي يضخُّ الحياةَ في قلبها، فإن «الفنَّ الرفيعَ» هو روحُ مصرَ وصوتُها الغِرِّيدُ الذي يصدح، عندما يأتى المساء. ثروةُ مصرَ ليست في أنابيب نفطٍ ولا مناجم ذهب. ثروتُها في قلبها الذي ينبضُ فنًّا ويتنفسُ دفئًا ويخفقُ دهشةً تسُرُّ الناظرين. لهذا هي «مصرُ» التي لا أرضَ تُشبهُها. سُرَّ مَن رآكِ يا مصرُ.

وكان مساءً غنيًّا في حياتى. دخلتُ مغارةَ الكنوز، على ضفاف النيل، واختلستُ جوهرتين ثمينتين من ليلِها المشرقِ بالفنّ والجمال. فيهما معًا، تغريدةُ مصرَ المترامية التي بدأت منذ عشرة آلاف عامٍ، ولم تتوقف عن الصدح حتى اليوم.

الجوهرة الأولى:
«ترنيمة الفلاح الفصيح». أوبرا فرعونية طقسية ملحمية، تُجسّدُ محنةَ الإنسان فوق الأرض إذْ يقفُ في مواجهة نفسه أمام ميزان العدالة معصوب العينين. تنتزعُ التجاربُ «عقلَه»؛ فيصير غيبيًّا ظلاميًّا نقليًّا مُنبطحًا أمام التقليد والعشوائية. تنتزعُ المحكَّاتُ والأهوالُ «قلبَه»؛ فيغدو عنيفًا قاسيًا حوشيًّا يظلِمُ ويقتلُ وينحرُ ويغتصب. يبدأ رحلتَه الشاقّة فوق الأرض وحيدًا وغريبًا وحزينًا، ويكافح حتى يستردَّ عقلَه وقلبَه وريشةَ ضميره، فيصيرُ من جديد إنسانًا متحضّرًا يخرج من قوقعة الجمود والموات، نحو شساعة الحرية والحياة. شبابٌ واعدٌ يكسرُ المألوف ويُبدعُ فوق خشبة «مسرح الشباب» بالمسرح العائم. يكتبون الورق، ويضعون الموسيقى، ويعزفون، ويرقصون، ويطلقون أصواتهم بالغناء، ويمثّلون. مدهشٌ أن تشاهد تلك التجربة الفريدة، حين يكون الممثّلُ عازفًا ومغنيًّا وراقصًا في آن. أما الترنيمةُ الغنائية، فكانت جديلة شجيةً غنيّة من اللحن الفرعونى، الممزوجة بالترانيم الكنسية، المجدولة بالتواشيح الإسلامية، حتى تكادَ تلمس بين جواباتِها وقراراتها طميَ مصرَ الخصيب. منذ دهور لم أشهد عرضًا بهذا الإتقان والتناغم تقدّمه، من ألِفِه إلى يائه، مجموعةٌ من الشباب الذي يخطو خُطاه الأولى في عالم الفنّ الرفيع. الأوبرا تأليف وأشعار: محمد حمد، موسيقى وألحان: د. هانى عبدالناصر، ديكور وأزياء فرعونية: رامه فاروق، وإخراج مخرج الأعمال الصعبة: سعيد سليمان. تمثيل وغناء ورقص تسعة عشر شابّةً وشابًّا من أبناء مصر الطيبة.

***

الجوهرة الأولى:
«الحالة توهان». بانوراما مسرحية تضعُ «العقل» في مواجهة «النقل». يَمثُلُ «الفاهمُ» في مواجهة «الحافظِ» أمام محكمة التاريخ الإنسانية. يُقدِّم كلٌّ منهما دفوعَه وأسانيدَه وعريضة دعواه أمام قاضٍ وهيئة مُحلّفين تُمثِّلها فئةٌ عشوائية من أبناء المجتمع. تمتدُّ المحاكمةُ منذ ابن رشد الذي نادى بإعمال العقل وتأويل النصّ بما يتفقُ مع صالح الإنسان فوق الأرض، في مواجهة الغزالى الذي رفضَ إعمال العقل ونادى بحَرفية المعنى. ورغم الهزيمة الظاهرية لقيمة «العقل» المتمثّلة في ابن رشد، وحرق كتبه ونفيه من قرطبة الإسبانية إلى مراكش المغربية، إلا أن أفكارَه التي نادت بالتحاجج بالحقّ الذي لا يُضادُّ الحقَّ، وشروحَه العظيمة لأفكار أرسطو؛ طارت عبر الزمان والمكان حتى أنهضت أوروبا من ظلامِها، وأسّست منهجًا عقليًّا مستنيرًا، لو أخذت به مجتمعاتُنا لنهضت من كبوتها. وتمتدُّ المحاكمة عبر الزمان حتى تصلَ إلى شيخ المبصرين د. طه حسين ومحنته مع بحثه «فى الشعر الجاهلى»، وانتصاره على الجمود في عصرٍ كان يلمعُ بتيارات مستنيره نسبيًّا، سوى أن أفكاره اللامعة لم تَطِر بأجنحتها، إذْ أجهضتها رياحُ الرجعية التي اجتاحت مجتمعاتنا العربية مع نهاية السبعينيات الماضية، فأسلم طه حسين محنتَه مع الظلام إلى د. نصر حامد أبوزيد، ثم انتقلت إلى فرج فودة، ثم نجيب محفوظ، فهاجر الأول، وقُتل الثانى، وطُعِن الثالثُ. وتوغّل الظلامُ حتى وصلنا إلى مداه الأقصى مع داعش الآثمة. ولا تزالُ المحكمة قائمةً لم تُحسَم، وما زالت مصرُ تُطحَن تحت نير صراعها، لكن الوعدَ بالنور يُخاتِل مع وهج مشاعلَ شابّةٍ يحملها مثقفو المجتمع المستنيرون. هذا العمل البديع أخرجه د. «سيد خاطر»، وشارك في كتابته مع «السيد إبراهيم». ويقول المخرج إن حالة التوهان التي تجتاحُ الأمّة العربية، لابدّ أن تُجابه بنوبة من صحوة الضمير ويقظة العقل حتى نستفيقَ من غفوتنا ونجد الحلول لمشكلات عصرنا الممتدّة على طول الزمان، علّنا لا نظلُّ أوهنَ الأمم. جسّدَ الفنانُ القدير جمال عبدالناصر أدوارَ «العقول» عبر التاريخ، منذ ابن رشد وحتى نجيب محفوظ، فبرع في تقديم لسانَ التنوير والفكر. وفى المقابل، برع الفنانُ المبدع أشرف مصيلحى في تجسيد لسان التقليد والرجعية، منذ القرن الثانى عشر حتى وصل به الإظلامُ إلى ُمنتهاه ليغدو أميرًا لخلية داعشية تنشرُ الويلَ والدماءَ في أرجاء الأرض. العرض المدهش يُقدَّم على خشبة «المسرح الكوميدى» بالمسرح العائم العريق. وكلا العرضين من إنتاج البيت الفنّى للمسرح.

تحية احترام للدولة على إحياء المسرح الرفيع ودعمه. فالمسرح مشعلُ تنوير وسيفٌ ماضٍ في وجه الظلام والطائفية. و«الدينُ لله، والوطنُ لَمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم