لميس الحديدي
تنفس البعض الصعداء بعد نفي الإدارة الأمريكية على لسان مبعوثها الخاص للشرق الأوسط ما تردد بأن صفقة القرن المزمعة تتضمن تسليم جزء من أرض سيناء "المصرية" لقطاع غزة. وصف جرينبلات الرواية السابقة بأنها "كذب" وقال: "لا تصدقوا كل ما تقرأونه" لكنه طبعا لم يكشف مزيدا من التفاصيل حول الصفقة "الشبح" التي يتكتم هو وترامب وصهره كوشنر تفاصيلها للإعلان عنها عقب شهر رمضان كمفاجأة عيد الفطر للعرب والمسلمين! تصريح جرينبلات لم يقل شيئا، بل آثار مزيدا من القلق وعلامات الاستفهام تضاف إلى السؤال الأكبر: لماذا يهتم ترامب – صاحب نظرية أمريكا أولا أو أمريكا فقط - لماذا يهتم بتلك الصفقة لهذا الحد؟ هل يريد حقاً ان يكتب اسمه في التاريخ رئيسًا أمريكيًا تمكن من حل الصراع الأعقد في العالم؟ أم أن هناك أهدافا أخرى؟
وقبل محاولة البحث عن إجابة السؤال، أظن أننا لا يجب أن نعير نفي جرينبلات أهمية كبرى، أولا لأنه لا يوجد طرح رسمي لفكرة اقتطاع جزء من سيناء (رغم الحديث عن ضغوط على مصر والاْردن)، وثانيا والأهم أنه لا يمكن أن تكون هناك إدارة مصرية تقبل بأي حال من الأحوال تلك النظرية مهما كان الثمن أو الضغط. فالأرض ملك للمصريين حاربوا من أجلها وفقدوا دماء وشهداء للحفاظ على كل شبر منها. فلا يجب أن توحي إلينا الإدارة الأمريكية أنها هي التي تؤكد على مصرية الأرض، وأنها "ستكرمنا" بإخراج سيناء من المعادلة (لم يذكر المبعوث شيئا عن خطة التوطين مثلا)، فنحن لا نحتاج لذلك التأكيد لأنه أمر لا يجب أن نتناقش حوله أصلا.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا كل هذا الاهتمام من ترامب؟ ولماذا الآن؟ هل يريد فعلا حل القضية وإنهاء نزاع دام عقودًا؟ هل يهتم بالحقوق والإنسانية وعودة اللاجئين؟ هل يريد أن يرى المنطقة تعيش في سلام حقيقي؟ والإجابة بوضوح طبعا لا. ترامب لا يهمه أيا مما سبق، فهو لا ينظر إلا إلى ٢٠٢٠ موعد إعادة انتخابه من جديد، وهكذا يمكننا أن نفسر كل سياساته محلية أو خارجية ضمن هذا الإطار: كيف يمكن أن يحصل على ولاية ثانية في ٢٠٢٠. وفي الولايات المتحدة على الرئيس أن يبذل مجهودا كبيرا للفوز في الانتخابات ويبحث عن مساندين له.
من هم إذن مساندو ترامب؟ كل التحليلات الأمريكية تؤكد أنه لم يبق له - مع عثراته والهجوم الإعلامي المستمر عليه - سوى اليمين الأمريكي المتطرف، فهم من جاءوا به إلى البيت الأبيض وهم تقريبا الفريق الوحيد المستمر في دعمه حتى الآن في قضايا عديدة ومنها قضية الحائط مع المكسيك مثلا. هذه الكتلة تتضمن اتجاهات متنوعة في مقدمتها الأمريكان الإيفانجيليكالز، والمسيحيون الصهاينة، هؤلاء جميعا – من دون الدخول في تفاصيل عقائدية كثيرة - يؤمنون بحق عودة اليهود إلى إسرائيل وبأنه الشعب الذي مهد الطريق لظهور المسيحية. وهنا تأتي المصالح الإسرائيلية، وهنا أيضا يكون كل دعم من ترامب لليمين الإسرائيلي (نتنياهو) هو في حقيقته دعم لنفسه، يترجم لاحقا إما إلى تبرعات للحملة الانتخابية أو لأصوات حين يأتي الوقت.
وهكذا يعلن ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، ثم يعلن الجولان أرضا إسرائيلية، متجاوزا كل المرجعيات الدولية السابقة من مدريد إلى أسلو إلى المبادرة العربية وبينهم قرارات مجلس الأمن. كل ذلك لا يهم ترامب كثيرا، وربما لم يطلع عليه أصلا ولا يعرف تاريخه أو تفاصيله. الأهم بالنسبة له هو هذه الكتلة الحرجة التي ستحمله للولاية الجديدة وبالتالي يجب إرضاؤها بكل الطرق وبأي ثمن، حتى لو كان الثمن شعبا بأكمله. ومن هذا المنطلق علينا تفسير كل سياسات الإدارة الأمريكية، وإصرار وزير الخارجية بومبيو مثلا في كلمته في الجامعة الأمريكية بالقاهرة أن يذكر أنه ينتمي لهذه الكتلة "مسيحي إنجيليكال" كل شيء يدور حول هدف واحد:٢٠٢٠.
هذا التفسير يقدم لنا كل الإجابات المطلوبة حول ماهية الصفقة، فهي بالتأكيد تستهدف إرضاء إسرائيل وليس تقديم حل للقضية الفلسطينية. ويضاف إليه إيمان ترامب المطلق بنظرية القوة: الأقوى يحصل على ما يريد، والأضعف ليس أمامه إلا أن يقبل. وهكذا فلا يجب أن نعجب أو ننزعج حين نسمع أطروحات حول حل الدولة الواحدة، إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية أو حتى الحكم الذاتي، إلغاء حق العودة، الكلام عن توطين اللاجئين في بعض الدول العربية، ضم الضفة الغربية، والاكتفاء بتحسين ظروف حياة الفلسطينيين كحد أقصي لأحلامهم. تلك الأفكار لا يجب أن تكون صادمة لنا إذا ما كشف عنها، فهي تبدو منطقية في إطار تفكير ترامب، لكن ما علينا أن نفعله هو الاستعداد لها وتوحيد رد الفعل، وكما قال أمين عام الجامعة العربية في اجتماع الجامعة أمس "تنحية الخلافات جانبا لأننا نواجه تصفية القضية".
لكن وإذا ما كان هذا الكابوس حقيقة - وعلينا أن نقر أن كثيرا من الكوابيس تحققت في حياتنا بالفعل - فعلى الصفقة " الشبح" التي تحمل كل أحلام الإسرائيليين وأوهامهم أيضا أن تجيب عن سؤال مهم: ماذا ستفعل بخمسة ملايين فلسطيني بالداخل وقرابة 2.5 بالخارج، فلن يستيقظ ترامب وقد اختفوا مثلا، كما أن إسرائيل هي دولة للإسرائيليين فقط، فلماذا تضطر إسرائيل للدخول في كل تلك الإجراءات غير المفهومة بينما أمرها الواقع (طبقا لنظرية القوة التي يعتنقها ترامب) مريح للغاية. هدايا ترامب لإسرائيل إذن قد لا تكون مفيدة ولا يحتاجونها حاليا. بل قد تحمل تعقيدات لا يريدها الإسرائيليون أنفسهم.
أيام قليلة وتكشف إدارة ترامب عن الشكل الحقيقي "للشبح" الذي تلوح لنا به بتصريحات كثيرا ما تكون هي المسؤولة عن تسريبها كي ترفع السقف عاليا فنسعد ونقبل بسقف يبدو أقل لكننا ما كنا سنقبل به من قبل. وقد يغير ترامب رأيه في اللحظات الأخيرة بعد اتفاق مع يمينه الصهيوني إذا ما وجد هذا اليمين أن مشاكل الصفقة وعقباتها أكثر من مزاياها. لكن المريح نوعا ما وحتى اللحظة أن كل ردود الأفعال الرسمية العربية حول الصفقة "الشبح" تبدو متشابهة: فالقيادات المصرية والسعودية والأردنية تنتهز كل فرصة للتأكيد على تمسكها بأطر المبادرة العربية وبثوابت القضية وبما يقبله الفلسطينيون أنفسهم.
لن يفرض علينا أحد ما لا نقبله، تلك يجب أن تكون قناعاتنا الواضحة، فإذا كان ترامب لا يعرف التعامل إلا مع الأقوياء فلنكن كذلك، ونحن كذلك عندما نريد. فمهما كانت الضغوط ومهما كانت المساومات، هناك ما لا يمكن أن نساوم عليه، خاصة إذا كان الهدف ليس حل القضية ولكن ولاية ترامب القادمة!
نقلا عن مصراوى