محمد أبو الغار
منذ ستين عامًا عبرت باب جامعة القاهرة طالبًا فى كلية العلوم فى السنة التحضيرية لدراسة الطب، ولم أتخيل ولو للحظة واحدة أن أرى المشهد الذى رأيته على اليوتيوب لرئيس جامعة القاهرة خلال هذه العقود الستة التى قضيتها تلميذًا وأستاذًا. وأصابنى الأسى عندما وصلتنى رسائل بالفيديو من الزملاء فى مختلف جامعات العالم تبين دهشتهم وانزعاجهم وحزنهم على ما أصاب جامعة القاهرة.
المشهد كارثى ولا يمكن تبريره بأى حال من الأحوال، فالجامعة ليست صالة مزادات وليست قاعة للأفراح. جامعة القاهرة هى الجامعة الأم، ولنذكّر بأن ساحتها تسمى الحرم الجامعى، وهى الجامعة التى تبرع المصريون من أموالهم وجهودهم وعرقهم لبنائها بدءًا من المواطن الفقير الذى دفع بضعة قروش إلى الأميرة فاطمة إسماعيل التى تبرعت بأراض ضخمة ومصاغ هائل. كل هذا لرفعة مصر وتقدمها. نعلم جميعًا أن الجامعة هى القاطرة التى تجذب الوطن إلى الأمام بالعلم والبحث العلمى، وتقوم بتعليم وتدريب أجيال مختلفة من الطلاب. جامعة القاهرة قدمت العلماء بداية من مصطفى مشرفة فى الذرة إلى مئات من العلماء الذين انتشروا، وحصلوا على الجوائز العلمية فى العالم كله. هى الجامعة التى أفرزت أجيالًا من أعضاء هيئة التدريس ليكونوا النواة فى جامعتى عين شمس والإسكندرية ثم الجامعات الإقليمية الأخرى. هى الجامعة الوحيدة فى مصر التى صنفت مرات كثيرة من ضمن أحسن 500 جامعة فى العالم فى التصنيف الأهم وهو تصنيف شنغهاى.
أعلم جيدًا أن النشاط الترفيهى والثقافى والرياضى أمر مهم فى الجامعة. وأذكر ونحن طلبة أن مسرح الجامعة كان عامرًا بالمسرحيات العالمية وكانت الحفلات الموسيقية والغنائية تقام بانتظام وكذلك المعارض الفنية والمسابقات الرياضية، وقد تشرفت بالإشراف على النشاط الرياضى والثقافى فى الجامعة كأستاذ فى نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات. أهلًا بكل ذلك فى الجامعة ليحتفل الطلاب مع الأساتذة، ولكن اتخاذ قرارات علمية وإدارية فى حفل غنائى يقدم له بطريقة الملاهى الليلية فهذا هو العبث بعينه.
الجامعة هى مكان للبحث العلمى فى جميع المجالات العلمية بما فيها العلوم الإنسانية، والتقييم للجامعات يتم أساسًا على مقدرة الجامعة على إنتاج معرفة جديدة ومبتكرة؛ وذلك لن يتم إلا بالجدية فى هذا المجال.
يجب أن نفرق تمامًا بين واجب الجامعة فى التعليم والبحث والابتكار وبين واجبها فى الترفيه عن الطلبة والمشاركة فى الرياضة والفن والموسيقى وهما أمران منفصلان، فلا يمكن أن نغير قواعد النجاح بمناسبة مباراة لكرة القدم أو نعيد تقييم البحث العلمى فى حفل غنائى ساهر.
لقد تولت قيادة الجامعة مجموعة مختلفة من الأساتذة بعضهم أساتذة عظام يذكرهم التاريخ بكل فخر واعتزاز كرؤساء للجامعة أو عمداء للكليات، أو أساتذة قياديين بدون مناصب رسمية، وأحيانًا أخرى فى ظروف مختلفة تولت القيادة شخصيات غير متميزة فى العلم أو القيادة، ولكنها جميعًا احترمت الجامعة وتقاليدها وكانت تعاملاتها تتميز بالاحترام للزملاء فى كل مكان وحتى الذين كانت لهم مناصب سياسية أو حزبية حينما تولوا هذه المناصب حاولوا قدر ما استطاعوا أن يتركوا التأثيرات السياسية والحزبية بعيدًا، فكيف يمكن أن نقول للطلاب لا للعمل السياسى داخل الجامعة والبعض فى الجامعة يقوم بهذا العمل بطريقة بائسة ربما تكون أدت إلى نتائج عكسية لما أراده بعد أن استفز الحاضرين والغائبين.
هذه الجامعة العريقة رأسها منذ فترة طويلة أحمد لطفى السيد، وكان نجمًا فى تشجيع الروح الأكاديمية والحرية فى البحث العلمى. كان من رجالها طه حسين عميد الآداب الأشهر والذى نقله وزير المعارف إلى ديوان الوزارة بعد أن رفض تدخل الوزير فى العملية الأكاديمية، فاستقال واستقال معه رئيس الجامعة لطفى السيد وعاد الاثنان للجامعة تحت ضغط شعبى بعد أن غيرت الحكومة القانون وأصبح ليس من حق الوزير نقل أستاذ خارج الجامعة وتحقق استقلال الجامعة.
فعلينا الآن أن نعيد التفكير مرة أخرى فى طريقة اختيار المناصب القيادية فى الجامعة، ويجب أن تكون من المعايير المهمة أن تكون القيادة شخصية لها وزن أكاديمى وثقافى وتتمتع بمصداقية وليس فى تاريخها ما يشير إلى اتجاهات فيها تطرف أو خروج عن الروح الأكاديمية الرصينة. وأخيرًا الجامعة المحترمة لها تقاليد، ونصت جميع دساتير مصر والعالم على أن الجامعة مستقلة، وهذا يعنى البعد عن أى تهريج سياسى ومهاترات غير مجدية تزلفًا للسلطة واستجداءً للترقية لمنصب أعلى.
فأهلًا بالنشاط الفكرى والثقافى والترفيهى فى الجامعة، وأهلًا بالحرية الأكاديمية حتى تكون المناقشة جادة للتعلم والاستفادة.
قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك
نقلا عن المصرى اليوم