نوال السعداوي
كان زميلا بكلية الطب بجامعة قصر العينى (القاهرة حاليا) لا يلتقط ما يمليه الأساتذة علينا فى المحاضرات، يتودد إلى ليستعير كراستى، عيناه خاليتان من بريق لإبداع، لم أنجذب إليه، لكنى كنت أعطيه كراستى لينقل ما فيها، تعاطف الزمالة والجوار، كان يجلس فى المقعد المجاور لى، لم أتوقع أنه سينجح بدرجة مقبول، فما بال أن يتفوق ويصبح من الأوائل، علمنا أن أبناء الأساتذة أو أقاربهم كانوا يحصلون على الأسئلة قبل الامتحانات، ويرثون المناصب وكراسى الأستاذية، والمال والشهرة، أصبح زميلى من كبار الأطباء فى مصر، والشرق الأوسط، واشترى المزارع والعمارات والعيادات، والمستشفى الخاص الكبير فى الحى الراقى بالضاحية الجديدة، يعالج الأميرات فى بلاد النفط، ويرشح نفسه فى الانتخابات السياسية والنقابية والمجالس القومية ويشارك فى الحكومة والمعارضة والثورة، وكتابة الدستور الجديد، كان يقابلنى أحيانا بالصدفة، ويعبر عن إعجابه بأفكارى وكتاباتى، لكن قلبى كان مغلقا دونه،
فى بداية مستقبله فى شبابه، تقدم لأبى يطلب يدى، لكنى لم أتخيله حبيبا أو زوجا، وفضلت عليه زميلا فدائيا ترك الكلية ليحارب الإنجليز فى القنال، ومات فداءا للوطن، تطارده الحكومة المصرية والإنجليز معا، كنت فتاة حالمة بتغيير الكون من الظلم والعبودية، وتحرير الوطن من الاستعمار الأجنبى والحكم الملكى الفاسد، إنه جنون الإبداع فى ربيع العمر الذى كاد يحطم حياتى لولا تدعيم أبى وأمى.
كنا نعرف نحن الطلبة والطالبات فى الخمسينيات من القرن الماضى، أن شجرة العائلة ونظام التوريث عبر روابط الدم، تحكم الكراسى والمناصب فى كلية طب قصر العينى، وقد كتبت أكثر من مرة، فى مجلات الجامعة، قبل التخرج، والصحف عامة بعد التخرج، عن هذه الظاهرة المريضة الموروثة منذ النظام العبودى العائلى، وهو نظام لم تتخلص منه أوروبا فى العصور الوسطى إلا بالنهضة العلمية والفكرية وانهزام حكم الكنيسة، فالحكم الدينى لا ينفصل عن التوريث العائلى وروابط الدم البيولوجية.
ومن الغريب أو ربما من المألوف، أن هذا الأستاذ الكبير فى كلية الطب، الذى ورث منصبه عن شجرة العائلة، وأورث ابنه أو ابنته وحفيدته منصبها فى كلية الطب، هذا الرجل أصبح من أشد المعارضين لنظام التوريث، (بعد سقوط حكم مبارك بثورة يناير ٢٠١١)، رأيته يمشى فى ميدان التحرير ضمن أتباع البرادعى، ورأيت صورته فى الصحف يهنئ مرسى والإخوان بالحكم بعد انتخابات أطلقوا عليها إسم: عرس الديموقراطية،
هذا الأستاذ الكبير هو النمط السائد للطبيب الناجح فى بلادنا، هو المثل الأعلى لشباب الأطباء والطبيبات، يصبح وزيرا أو يحتل منصبا كبيرا فى نقابة الأطباء ويدافع عن أمثاله وزملائه من الأطباء، الذين يخطئون فى عملهم الطبى، إهمالا أو جهلا، ثم ينفثون الدخان من أطراف أنوفهم فى وجوه المرضى الفقراء، بعد أن يمصوا دماءهم وأموالهم، ويسببوا لهم العاهات المستديمة أو العجز الكامل أو الجزئى عن العمل.
هؤلاء الكبار الأقوياء من الأطباء نرى صورهم فى الصحف، والإعلام والشاشات، يتاجرون بمعلومات سطحية عن الطب والعلاج، يستمع إليهم الملايين من النساء والرجال المستسلمين فى بيوتهم للقضاء والقدر، قال وزير الصحة السابق الدكتور إبراهيم بدران إن هؤلاء الأطباء الغيلان، كان يطلق عليهم اسم «الغيلان» هؤلاء يقفون ضد أى مشروع للصحة يفيد الشعب الفقير الكادح، هؤلاء وقفوا ضد مشروع التأمين الصحى الذى حاولنا تطبيقه دون جدوى، بسبب الغيلان، هذه شهادة الدكتور إبراهيم بدران وكان أستاذا لى بكلية الطب، عام ١٩٥٤، ووزيرا للصحة، ويشهد على كلماته الدكتور صلاح فضل الناقد الأدبى المعروف والكاتب بجريدة «المصرى اليوم».
أحد هؤلاء الغيلان كاد يفقدنى نور عينى (عام 2018) جهلا وإهمالا، لولا دعوات المرحومة أمى، والمرحوم أبى.
نقلا عن المصرى اليوم