كمال زاخر
بين الأدب والتاريخ غرام وتربص، وبين الأدب والمقدس خيوط وقنوات تتسع وتضيق، فى تراوح يرسم حدوده سقف الحرية ومساحات الوعى والتحقق المجتمعى والقدرة على التلاقح الثقافي، وتأتى الرواية فى المقدمة، ويجد فيها الأديب مساحة تسمح له بتناول احداث ووقائع تاريخية، تتماس احياناً مع المقدس، وأحياناً مع السياسة، بشكل متحرر من القيود التى تحكم عمل المؤرخ، أو تترصد سطور المحلل السياسي، أو تهرطق الفقيه الديني، وهى مساحة تتيح للأديب تحميل روايته رسائل للواقع المعيش وربما للمستقبل ايضاً، ولعلنا نجد فى أدب نجيب محفوظ تنويعات على هذا النسق، تتراوح بين الحكى والرصد والإسقاط، ولا تخلو من خبرة عاشها الأديب فى الحقب التى تقع أحداث رواياته فيها، ويمكن أن تشير إلى شخصية أو أكثر تحسبها الأقرب إلى الكاتب، وربما تجسده. وتتربع ثلاثيته ـ السكرية وقصر الشوق وبين القصرين ـ على القمة، وتأتى أولاد حارتنا لتثير دوائر من الجدل الحاد يصل بها إلى دوامات المصادرة، لنكتشف معها أزمة المجتمع الحقيقية وأزمة الثقافة السائدة، التى هى بيت الداء.
لكن بئر الإبداع لم ينضب، فمصر الإبداع أم ولود، رغم رياح التصحر المتجهمة التى هبت علينا فإن النهر مازال يجري، ومازال قادراً، كما كان يفعل فى مواسم الفيضان، على غسل التربة المصرية ومراكمة طميه لتعود الأرض أكثر خصوبة وتعوض السنين التى أكلها الجراد. يأتى عُرس الثقافة المصرى السنوي، معرض القاهرة الدولى للكتاب، فى يوبيله الذهبى 2019 ليحتله الشباب مبدعين ومرتادين، وتتنوع اصدارات المشاركين، ويقفز الأدب الى المقدمة، فى تأكيد جديد على أن العقل المصري، بين المبدع والمتلقي، يتعافى ويسترد وعيه، ليضع نقطة فى نهاية سطر التصحر الذى طال، وتعود الهيئة المصرية للكتاب إلى دورها الريادى فى التصدى للأعمال الإبداعية الكبري، فتصدر رواية صلاة خاصة للأديب الشاعر صبحى موسي، نحو 600 صفحة، لنجد أنفسنا أمام طرح يحفزك على الاشتباك مع التاريخ البعيد والقريب بل ومع اللحظة المعيشة، بغير أن يلقى بك فى متاهة التاريخ وانحيازات المؤرخين، حتى أنك تخال شخوص الرواية القادمين من قرونه الأولى يعيشون معك ويسعون بيننا، ويستنجدون بك وهم يطرحون رؤاهم لتنصفهم مما حاق بهم، وتوفر لهم ملاذاً آمناً فى حصون عقلك وذهنك، ولما كان الحياد الفكرى وهم، فقد انحاز الكاتب إلى الرؤية المصرية وهو يطرح قضايا فلسفية ولاهوتية متنازعا عليها بين مدرسة الأسكندرية ومدارس انطاكية وروما، ويردها إلى جذورها القديمة التى طافت حولها.
تتناول رواية صلاة خاصة احداثاً وتشابكات تدور فى ازمنة مختلفة ماببن القرن الثالث (اوريحانوس- ديمتريوس)، والقرن الرابع (اثناسيوس ـ اريوس وتقلبات الأباطرة)، والقرن الحادى والعشرين (الأقباط ومعاناة الاستهداف، والأقباط والكنيسة، والكنيسة والكتائب الإلكترونية)، فى مزج بديع بين وقائع التاريخ والغوص فى حياة شخوصها ومعاركهم الفكرية وصراعاتهم اللاهوتية ويعرج على ارتباكات ما بعد الربيع العربي. ومصادمات الفرقاء كل فى حقبته، وغاص فى الأطروحات الفكرية ولحظاتهم الإنسانية لينكشف للقارئ زخم تلك الأزمنة وموروث اللحظة منه واضاف شخصيات متخلية فرضها التناول الأدبى وسعيه للربط بين الأزمنة، بل وأضاف أماكن تدور فيها بعض الأحداث، لكنها لا تخلو من اشارات واضحة لا تبتعد عن اللحظة المعيشة، فهناك دير الملاح حيث البحث والتأليف، ويقابله دير النساخ الذى ينشر ما ينتجه دير الملاح، ويضع على السنة اشخاص الرواية تساؤلات تفجر قضايا لم تحسم بعد: هل يتسع ملكوت الرب للمنتحرين من فوق الجبل كى يسكنوه، أم أن الله لا يحب ولا يغفر للمحبين، ولا يريد إلا بشراً يمشون على قضبان من حديد، كيف تقنع أناساً بالعودة عن طريقهم وقد رأوا الجنة على بعد أمتار منهم، الحسم هو العلاج الذى تحتاجه القضايا الكبري، كى لا تتسرب المياه بفعل الزمن من بين الجدران.
فى بداية القراءة تشعر بعدم الفهم حتى تستوعب أن الرواية تسير فى خطوط متوازية، وتذكرت وأنا أقرأ ما قيل عن الملاكم الأمريكى الأسطورة محمد على كلاى من أنه يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة، وهكذا فعلت معى رواية صبحى موسي، فما أن أبدأ فى الاندماج حتى أفاجأ بأن الفصل توقف، وأن السرد انتقل إلى حقبة أخري، فاظل على توترى متابعا ما يجرى فى الخطوط الثلاثة أو الأربعة التى يعمل عليها. فى هذه الرواية يقوم صبحى بأنسنة الشخصيات الطوباوية المقدسة، والاقتراب من تفاصيل يومهم كبشر يشبهوننا، لهم طموحاتهم والتزاماتهم وصراعاتهم مع العالم، ومع الرغبات، وكيف واجهوها بين اخفاق وانتصار، ويكشف عن عبقرية اوريجانوس، القرن الثالث الميلادي، فى تأسيسه لمدرسة التفسير الرمزى الذى عبر بالمسيحية فوق اشكاليات احداث العهد القديم التاريخية والمحتشدة فى بعضها بالعنف، وتكشف الرواية قوة المصريين فى حماية كنيستهم فى مواجهة امبراطورية عاتية فى صراع البابا اثناسيوس واريوس المدعوم بالبلاط الامبراطوري، القرن الرابع الميلادي، وينتصر اثناسيوس رغم مطاردات السلطات له ونفيه عن كرسيه جل فترة ولايته، فقد وجد ملاذه بين الفلاحين فى القرى والنجوع مختبئا ومحاطاً بحمايتهم. وتتناول الرواية تشابكات اللحظة وتقترب من جذورها ودوافعها ومآلاتها، بين جماعة الأمة القبطية، والجماعات التى تتمترس خلف شاشات التواصل الاجتماعى وتعيد انتاج الصراعات القديمة على أمل التصدى للتيارات الإصلاحية التنويرية.
يحسب للرواية أنها قدمت طرحاً يعيد التواصل مع حقب مصرية بجسارة اعادت الحقبة المسيحية إلى السياق المصري، بحيث عندما أقرِؤها كمسيحى أو كمسلم اتيقن أن هناك تراكما ثقافيا ومعرفيا وفكريا وفلسفيا، وخاصة أن المسيحية اشتبكت مع الفلسفة السائدة فى القرنين الثالث والرابع الميلاديين.