مسلمون ومسيحيون وإسلاميون
دعانى مركز المعلومات بمجلس الوزراء لمناقشة استطلاع أعدته مؤخرا نخبة من المتخصصين بالمركز حول «دور الدين فى المجتمع المصرى». والاستطلاع الذى كشف عن ظواهر بالغة الخطورة تعرض للأسف لتجاهل غير مبرر من الإعلام، حيث اقتصرت التغطية المحدودة على عرض بعض النسب المئوية بمعزل عن باقى نتائج الاستطلاع بشكل وصفى لا تحليلى.
وأهمية هذا الاستطلاع أنه كشف عن أمرين لا يقل أى منهما أهمية عن الآخر، أولهما أن هناك ميلا للتقوقع والعزلة بعيدا عن المؤمنين بالدين الآخر، والتحيز ضدهم لكن هذا الميل لم يتحول -حتى الآن- إلى القطيعة الكاملة والميل للتمييز. أما الأمر الثانى، فهو أن الاستطلاع هدم أساطير تتحدث عنها النخبة السياسية فى مصر وكأنها حقائق دامغة، فرغم أن المصريين حسموا أمرهم بشأن علاقة الدين بالسياسة إلا أنهم لم يحسموا أمرهم بعد بشأن موقفهم من الإسلاميين ولا من دور رجال الدين فى السياسة.
ولا أخفى عن القارئ العزيز أن الجزء الذى عنى فى الاستطلاع بمسألة التسامح الدينى هو الأكثر على الإطلاق إثارة لقلقى وألمى معا بالمقارنة بالأجزاء الأخرى. فهو كشف عن ظواهر بالغة الخطورة تهدد النسيج الاجتماعى المصرى ذاته. فقد فوجئت بأن 62% من أفراد العينة ليس لهم صديق أو صديقة يدين بديانة غير ديانته. الأسوأ من ذلك أن نسبة المسلمين الذين قالوا إن لهم أصدقاء مسيحيين ضعيفة للغاية حيث وصلت إلى 36% فقط مقابل 73% من المسيحيين لهم أصدقاء من المسلمين. وإذا كانت تلك النسب تكشف عن «واقع» جديد مؤلم لم يكن موجودا من قبل، فإن الأكثر إيلاما منه فى الحقيقة هو أن تفضل ذلك الواقع، وهو ماكشفت عنه الإجابات بشأن تفضيلات أفراد العينة.. صحيح أن 51% من أفراد العينة قالوا إن الدين ليس عاملا فى اختيار الأصدقاء إلا أن 48% أغلبيتهم الساحقة من المسلمين قالوا إنهم «يفضلون» أصدقاء من نفس دينهم. وهى نسبة مخيفة تستدعى البحث فى سبل علاجها فورا. لكن لعل الإيجابية التى تخفف من وقع هذه النتيجة قليلاً، هى أن هذه الظاهرة المؤلمة رغم خطورتها لم تصل إلى حد القطيعة الكاملة كما لم يتحول التحيز الذى هو موقف شعورى إلى فعل، أى «تمييز». فلايزال هناك 87% من المصريين يرحبون بالجيرة فى المسكن بين المسلمين والمسيحيين، بما تعنيه من عيش مشترك. ولا تزال أغلبية كبيرة أيضا لا تجد غضاضة فى المعاملات التجارية بين المسلمين والمسيحيين ولا فى التصويت لمرشح للبرلمان من ديانة مختلفة، وإن لم ينسحب ذلك على التصويت لمرشح الرئاسة.
لكن مما يثير القلق أيضا أن حوالى 82% من أفراد العينة لا يرون أن هناك تفرقة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر، وهو ما يعنى بالضرورة أن نسبة مرتفعة للغاية من المسلمين فى غفلة عما يعانيه شركاؤهم فى الوطن.
غير أن هذه الغفلة من النتائج الطبيعية فى ظنى للميل للتقوقع حول الذات الذى كشف عنه الاستطلاع. فغياب الصداقات بين المسلمين والمسيحيين من شأنه أن يجعل كل طرف يعيش فى واد يخصه لا يعرف شيئا عما يجيش فى صدور إخوانه فى الوطن ولا ما يدور فى عقولهم. لكن مما يخفف من وطأة هذه الظاهرة أن الثقة بين المسلمين والمسيحيين لم تنعدم. فالأغلبية على الجانبين (78% من أفراد العينة) لم تحمل الطرف الآخر المسؤولية عن الفتنة الطائفية. لكن الاستطلاع حمل أيضا مؤشرات العلاج فقد ثبت أن نسبة التحيز ضد أتباع الدين الآخر ترتفع بين الأكبر سنا والأقل تعليما خصوصا فى الريف، الأمر الذى يكشف عن العلاقة الوثيقة بين التنمية الشاملة وطبيعة العلاقة بين أبناء مصر المسلمين والمسيحيين، بل ترتبط التنمية، فى رأيى الخاص، بالعلاقة بين أبناء مصر وفق كل التصنيفات الأخرى، مثل الفقراء والأغنياء واليسار واليمين إلخ.
باختصار يدق الاستطلاع ناقوس الخطر، فواقع العزلة المؤلم هذا لابد من مقاومته وعلاجه قبل أن يتحول إلى قطيعة تدمر بالكامل النسيج الاجتماعى المصرى.
أما علاقة الدين بالسياسة، فبينما كشف الاستطلاع عن أن 80% من المصريين يريدون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، إلا أنه كشف أيضا عن أنهم لم يحسموا بعد موقفهم من دور رجال الدين ولا من الإسلاميين، فقد انقسمت العينة -مسلمين ومسيحيين- بالتساوى تقريبا بين من يرفضون ومن يقبلون مناقشة رجال الدين للموضوعات السياسية، وأيضا بين من يقبلون ويرفضون ترشيح رجال الدين للمناصب السياسية.
ومرة أخرى، يهدم الاستطلاع أساطير النخبة السياسية فى مصر والتى اجتهدت كاتبة السطور فى تفنيدها أكثر من مرة فى هذا المكان. فلا يوجد أى دليل على أن الأغلبية فى مصر محسومة للتيار الإسلامى أو لبعض فصائله. فقد انقمست العينة بالتساوى تقريباً بين الموافقين والرافضين لوجود حزب «يطلع من جماعة دينية» على حد تعبير سؤال الاستطلاع. أما المؤيدون لجماعة الإخوان المسلمين فلم تزد نسبتهم على 35%.
وكما ترى عزيزى القارئ، يكشف الاستطلاع عن واقع اجتماعى وسياسى يتحتم استيعابه وتفكيك ألغامه، ويحمل فى طياته أيضا هدما لأساطير من شأنها أن تخفف حدة الاحتقان السياسى فى مصر. فإذا كان الإعلام قد تجاهله، فهل حظى باهتمام القائمين على الحكم فى بلادى، أم أن مصيره أن يظل حبيس أدراج مركز المعلومات؟
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :