د. محمود العلايلي يكتب.. العقل النقدى والتغيير
مقالات مختارة | د. محمود العلايلي
السبت ١٦ مارس ٢٠١٩
د. محمود العلايلي
هناك العديد من الأشياء اكتسبت مصداقيتها من استقرارها على مر الزمن، كما أن هناك العديد من الأشياء قد اكتسبت مصداقيتها بسبب شهرتها، ولكن هل يعنى الاستقرارأو الشهرة أنها حقيقية؟؟
إن ما كان مستقرا فى أذهان الناس على مدى قرون من الزمن سواء كانت أيديولوجيات فلسفية، أو وقائع تاريخية، أو حتى عقائد دينية، ثم ما استقر فى أذهان الناس فى التاريخ الحديث سواء كانت وقائع سياسية أو عسكرية أو بعض الفلسفات الحديثة والتيارات الفكرية والفنية، كل ذلك كان غالبا ما يتصادم مع المبدأ النقدى فى التفكير، ويتنافر مع فكرة إعمال العقل مع ما يعد من المألوف والمعروف والمأثور، والذى تحول على مر الزمن إلى حقائق دوجماتيقية لا تقبل النقاش، وتساوى فى ذلك العقائد الدينية، أو اتباع زعيم سياسى أو بطل رياضى.
إن ما زاد على ما فات من طرح، أنه حدث خلط ساذج بين تقييم الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى التاريخية والحديثة، وبين الأعمال الأدبية والفنية والدعائية المعبرة عنها، على مستوى العامة فى أغلب الأحيان وعلى مستوى المتخصصين فى أوقات أخرى، فنجد تأثير ذلك من رسم صورة السوبرمان الأمريكى، وبطل المهمشين «تشى جيفارا» فى أمريكا اللاتينية، أو التضاد الواضح بين صورة الحياه فى روسيا القيصرية والصور المثالية بعد الثورة البلشفية، بالإضافة إلى الدعايات اليهودية التى رسخت للاضطهاد التاريخى والحديث، أما على المستوى المحلى، فقد ساهمت الأعمال الفنية السينمائية والغنائية بعد 1952 فى التأثير على العقل الجمعى الساذج، بشيطنة ما قبلها وتقديس ما بعدها، حتى صارت أدبيات هذه المرحلة من الرسوخ والاستقرار ليصبح ترديدها معيارا للوطنية، والتشكيك فيها بمثابة الخروج من الصف الوطنى لا محالة.
لقد حاول دعاة العقل النقدى على مدى قرون طويلة منذ ديكارت وروسو وإمانويل كانط، مرورا بهيجل وماكس فيبر وفرويد، وصولاً إلى الفلاسفة المحدثين المصريين مثل زكى نجيب محمود ومراد وهبة، التأثير فى ذهنية الناس لتفكيك القوالب الجامدة، إلا أنها كانت عصية على أى تدخل، وكان اللجوء للثوابت أسلم كثيرا من محاولة تحريكها أو حتى التشكك فى ثباتها.
وخلال محاولات أنصار العقل النقدى على مر القرون، لم يضع أى منهم تأثير معيار الزمن، ونتائج تسارع العلم فى الحسبان، فقد تجاوز العالم فى الثلاثين عاما الأخيرة عصر التكنولوجيا فى نقلة هائلة إلى عصر الاتصالات، والذى أدى بدوره إلى ثورة معلوماتية مذهلة غير مسبوقة على مر الحياة بالدخول إلى عصر المعرفة والاعتماد على الذكاء الاصطناعى وقواعد البيانات الضخمة، مما أدى بدوره إلى خلق منصات للتواصل بين البشر، أدت إلى تنحى الأدوار التقليدية لصناع القرار والدعايات الموجهة، إلى أدوار أخرى باستخدام هذه المنصات لتوصيل الأفكار، ولكن يتبقى الفارق المهم بين هذا العصر وبين ما سبقه، أن المعلومات قد أصبحت متاحة للجميع، وأن كل تيار فكرى أصبح له الفرصة العادلة لتوصيل رسائله وقيمه على قدر تمكنه من أدوات التواصل من استخدام الخوارزميات وآليات الذكاء الإصطناعى.
إن الاتساق مع عصر المعرفة يستتبعه تغير فى نمط التفكير ذاته، ومن ثم بعض الأفكار الفلسفية على مر الزمن، لأن التغيير لم يعد هو التحدى، ولكن التحدى أصبح التعامل مع التغيير، فبعد أن كان التغيير موقفا فلسفيا، أصبح التغيير واقعا يعيشه الناس وليس نبوءات يسمعون بها، وإذا كنا احتجنا إلى العقل النقدى فى السابق لإحداث التغيير، فإنه يلزم إيجاد صيغة للتعامل فى عصر فقدت فيه الثوابت رسوخها، وذابت الأفكار الجامدة فى طوفان المعلومات، وأعلن العصر عن نفسه «أن التغيير قد حدث».
نقلا عن المصرى اليوم