فى ذكرى البابا شنودة الثالث
مقالات مختارة | د.مينا بديع عبدالملك
الخميس ١٤ مارس ٢٠١٩
د.مينا بديع عبدالملك
اسم البابا شنودة الثالث أنشودة حلوة فى أفواه المصريين جميعًا – أقباطًا ومسلمين – لوطنيته الصادقة، وأبوته الحارة، وبذله المتناهى، وابتسامته الصافية، وذكائه الحاد، وحكمته السديدة، ونصائحه الملتحفة بالحكمة. لذلك طوال فترة مرضه كنا– أقباطًا ومسلمين– نصلى له جميعًا أن يسنده الله فى أوجاعه وأمراضه ويزيل عنه آلام الجسد ويعافيه من الأوجاع. الآن قد أكمل السعى ورحل إلى الآباء بعد أن أكمل رئاسة الكهنوت المقدسة.
أيها الحبر الأعظم والجليل.. منذ الساعة الأولى من حياتك قدمت ذاتك ذبيحة لله.. منذ الساعة الثالثة من حياتك تقبلت مواهب الروح القدس فخدمت فى رهبنتك وأسقفيتك تحت قيادة الروح.. منذ الساعة السادسة من حياتك صلبت ذاتك مع المسيح المصلوب عنا على خشبة الصليب.. منذ الساعة التاسعة من حياتك ذُقت الموت مع المسيح بإماتة الذات مع الأهواء.. منذ الساعة الحادية عشرة من حياتك استحققت فرح عشاء جماعة الغالبين إذ كنت مدعوًا بالحقيقة للوليمة السمائية.. وفى الساعة الثانية عشرة من حياتك التى كانت– طبقًا لتوقيتنا العالمى يوم السبت ١٧ مارس ٢٠١٢ فى تمام الساعة الخامسة والربع عصرًا– غادرت عالمنا الأرضى كجبار بأس، وفى يدك سعف النخل كمنتصر فى الحروب، وسمعت الصوت الإلهى المفرح: «نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا فى القليل فسأقيمك على الكثير أدخل فرح سيدك». نعم.. فى فرح سيدك– الذى لن ينتهى– انضممت إلى زمرة الآباء البطاركة الذين سبقوك، وإلى آباء الرهبنة الذين تتبعت خطاهم وتتلمذت بصدق على أقوالهم، وإلى الآباء الشهداء إذ كنت بالحقيقة شهيدًا بدون سفك دم، وإلى معلمى المسكونة الذين أناروا العالم بتعاليمهم.. ففى موضع راحتك أذكر كنيستك بصلوات لا تفتُر، فأنت المحب والمحبوب. وفى هذا أتذكر الكثير من المواقف التى رأيتها فى شخصه المحبوب، وأقدمها للقارئ العزيز بلا رتوش.
ما من مرة سافر فيها البابا لزيارة ورعاية كنائس المهجر بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا إلا وحرص على حث الأقباط على أهمية ربط أولادهم بالوطن عن طريق الزيارات المتكررة لمصر وربطهم بتاريخها العظيم، ومن هنا كان يحرص قداسته على استقبال وفود شباب الأقباط بالمهجر عند حضورهم لزيارة الوطن وتقديم العديد من النصائح والتوجيهات الروحية لهم باللغة الإنجليزية التى يجيدونها. كان يحرص فى أسفاره على أن يتوجه فورًا للاجتماع بالمصريين والتعرف على مشاكلهم والعمل على حلها باجتهاد.
محبته للفقراء والمساكين والمحتاجين والمرضى، شىء يفوق الوصف. أسبوعيًا بالقاهرة والإسكندرية كان يعقد اجتماعًا مع أولاده المحتاجين باحتياجات مختلفة ويسدد لهم جميع احتياجاتهم وأكثر. أذكر منذ بضع سنوات– بالتحديد فى عام ١٩٩٩- أن اتصل بى مجموعة من الأصدقاء «بإحدى كنائس الإسكندرية» وأخبرونى بأنه يوجد شاب عندهم فى الكنيسة فى احتياج شديد لنقل «كِلية» وتم جمع مبلغ من المال له ولكنه وما زال يتبقى مبلغ كبير يصعب تحصيله، فطلبوا منى أن أتصل بقداسة البابا إن كان يمكنه أن يسهم فى علاج هذا الشاب. فاتصلت بالأخ المسئول عن كتابة وإعداد مجلة الكرازة بالقاهرة– وكان اليوم جمعة– فأخبرنى بأن البابا فى الدير فى اعتكاف. فقلت له إن كان من الممكن إرسال فاكس للبابا به الرسالة التى أود أن أبلغها لقداسته. كان هذا فى حدود الساعة الخامسة عصرًا. نحو الساعة الثامنة ليلًا– فى نفس اليوم- وصلتنى مكالمة تليفونية من هذا الأخ أبلغنى فيها: «البابا بيقولك احضر غدًا السبت إلى الدير واستلم كل ما طلبته»!! أخبرت أصدقائى بهذا واتفقنا على أن نسافر صباح السبت إلى الدير لمقابلة البابا. فى تمام الساعة العاشرة صباحًا تم اللقاء والذى استمر حتى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر. تحدثنا فى العديد من الموضوعات وتناقش معنا بعقلية منفتحة جدًا، وروح مرحة. وفى نهاية اللقاء وجه لنا سؤالًا: «أنتم حضرتم ليه؟»، تملكت أصدقائى الحيرة والدهشة، فذكرت له القصة، فقال لنا: «طيب، ووضع يده بدرج بالمنضدة الخشبية البسيطة التى كانت أمامه، وأخرج لنا مظروفًا وقال لنا هذا المبلغ الذى طلبتموه وأكثر شوية لأنه بعد العملية توجد مصاريف أخرى للإسعافات والأدوية... إلخ». غادرنا المكان ونحن متعجبون من هذه الأبوة العالية، وأدركنا أن السؤال الذى طرحه علينا كان به مداعبة أبوية ليخفف عنا همومنا بخصوص الشخص المريض.
منذ أن تولى مسئولية التعليم فى الكنيسة فى سبتمبر ١٩٦٢ وهو يحرص على أن يقدم نصائحه الغالية للذين يخدمون فى الكنيسة ليبتعدوا عن الخدمة المظهرية الخادعة، فكان يقول لهم: «قضيت عمرك فى خدمة بيت الرب.. فمتى تخدم رب البيت؟».
أذكر أنه فى يناير ٢٠٠٢ توجه البابا إلى قبرص لتدشين كنيستين هناك، وكنت أحد الموجودين بالطائرة لسفرى إلى جامعة قبرص بالعاصمة نيقوسيا لإلقاء محاضرات بها. كان البابا يجلس فى الصف الأول من جهة ممر الطائرة. بعد فترة من إقلاع الطائرة تسرب خبر وجود البابا شنودة بالطائرة، فوجدت فجأة طابورًا مصطفًا بالممر لتحية البابا وعرض مشاكلهم، حتى إن المضيفين والمضيفات– على الخطوط القبرصية- لم يتمكنوا من عمل أى شىء سوى تنظيم الطابور. توجه المسافرون فردًا فردًا وجلسوا على الأرض بجوار البابا لعرض مشاكلهم، وهو يستمع لهم بكل اهتمام ويأخذ منهم الأوراق التى سجلوا فيها طلباتهم له. وعندما بدأت الطائرة تقترب من مطار الوصول، عاد الركاب إلى أماكنهم استعدادًا للهبوط. وما أن هبطت الطائرة وتوقفت محركاتها حتى وجدت البابا يقف مستندًا على عصا الرعاية ووجهه متجه نحو الركاب، وأشعة الشمس تخترق أحد شبابيك الطائرة وتسقط على وجهه المبارك، وقد تخيلت أن البابا يقف فى وضع صلاة ليصلى «صلاة الشكر» على سلامة الوصول. ففى هذا لا يختلف إن كان البابا بالطائرة أو واقفًا أمام باب هيكل الرب، فهو التلميذ الأمين للرب.
فى نسكه الشديد كان يحرص فى فترة أسبوع الآلام – الذى يسبق عيد القيامة المجيد – على ألا يتناول سوى بعض الخبز الجاف مع قليل من «الدُقة» فقط. ثم ابتداءً من يوم الخميس – الذى يسبق عيد القيامة – وحتى قداس ليلة العيد يتوقف عن الأكل والشرب ويقضى الثلاثة أيام فى خلوة كاملة وصلاة دائمة من أجل مصر ومن أجل الكنيسة أيضًا.
من أرض مصر نرسل لروحه بتحياتنا ومحبتنا.
نقلا عن الدستور