في ذكرى ميلاده: عبد الوهاب مستكشفا لإمكانات مقامات الموسيقى الشرقية
فن | الشروق
٤٩:
٠٦
م +02:00 EET
الاربعاء ١٣ مارس ٢٠١٩
في مشهد من الحلقة الحادية والعشرين من مسلسل "أهو ده اللي صار" كان المكان هو قصر نوار باشا في الإسكندرية والزمان هو بدايات القرن العشرين.
يستعد المطرب الشاب فرح (تيام قمر) لإلقاء الأغنية الجديدة لمحمد عبد الوهاب في حضور أستاذه الفنان السكندري الذي وهب روحه للفن الجاد الهادف علي بحر (محمد فراج) ووريث القصر يوسف بك نوار (أحمد داوود).
يُعلن فرح عن مقام الأغنية - دون مبرر درامي- فهو سيؤدي الاغنية منفردا دون مصاحبة من فرقة أو عازفين – قائلا: "مقام نهاوند" فيوافقه أستاذه علي بحر، لينطلق فرح مؤديا "خايف أقول اللي في قلبي".
لا أظن أننا بحاجة للتوقف عند الداعي للتحذلق بالإعلان عن مقام الاغنية، إن علمنا أن "خايف أقول اللي في قلبي" تبدأ من مقام الكرد، وتنتقل للبياتي دون أن يعرف لها النهاوند طريقا، وهي معلومة ليست بحاجة لمعرفة واسعة في المقامات الشرقية، بل بحث صغير على محرك بحث جوجل كان كفيلا بالكشف عما استغلق على صناع العمل، فالأغنية مشهورة حتى تكاد تزدحم شبكة الإنترنت بمعلومات عنها تشمل فيديوهات لتعليم العزف وتدوينات مختلفة في أزمنة مختلفة، على درجات مختلفة للأغنية الشهيرة، التي قدمها عبدالوهاب عام 1928.
لا أستطيع أن أجد وصفا لتلك الخطأ غير الكسل، ذلك الكسل الذي لا تقف حدوده عند ترسيخ معلومة خاطئة عن أغنية لعبد الوهاب، بل يتعدى ذلك الكسل حدود الأغنية ليصير هو الإطار الحاكم للتعامل مع موسيقي، قد يكون هو الأهم في القرن العشرين، حيث وُلد - على الأرجح - في أوائله وبدأ إنتاجه الموسيقي مع سنين الشباب ومات في أوائل عقده الأخير في العام ١٩٩١.
طرق إنتاج عبد الوهاب الموسيقي القديم كله تقريبا، وفتح آفاقا لم يسبقه إليها أحد.
لا نُبالغ إن قلنا أنّه أدّى بصوته كل الألوان الغنائية وشمل بفلسفته الموسيقية كل ما يُمكن أن يكون موسيقا، من ألوان مختلفة للغناء إلى ألوان مختلفة للمقطوعات الموسيقية.
* مشوار عابر للأوصاف
كل ذلك يتم اختصاره في أوصاف لا تعني شيئا حقيقيا؛ مثل الذي أنقذ الموسيقى الشرقية من موات كان وشيكا، أو الذي قتل الموسيقى الشرقية فعلا، أو المتمرد المجدد مخترع التجديد أو السارق الأجوف الذي لم يفعل شيئا سوى الاستعارة من الغرب ... إلى آخر تلك الأوصاف التي لا تصف الواقع بقدر ما تفرض تصورات أصحابها الأيدولوجية عن واقع إنتاج موسيقي شمل ما يقرب من القرن!
لا يتسع المقام لتفنيد كل تلك الاختزالات لعبد الوهاب وإنتاجه الموسيقي، فنكتفي بالنذر اليسير من الإضاءة على تعامل عبد الوهاب مع المقامات الموسيقية، والتي هي الإطار الحاكم لموسيقانا الشرقية، والتي تُسمى أيضا بالموسيقى المقامية.
رغم أن التصور الحاكم للمقامات أنها سلالم موسيقية، إلا أنها في الحقيقة ليست كذلك فحسب، بل إننا نعرف ما يُسمى بالسير المقامي.
ذلك السير المقامي – بكثير من التبسيط – يشمل السلم الموسيقي بالطبع، ومن أين يبدأ وأين ينتهي (فبعض المقامات تبدأ من أعلى الدرجات هبوطا كالكرد، وبعضها من أسفلها كالراست صعودا، وبعضها من الوسط كمقام شد عربان).
يشمل السير المقامي أيضا محطات "سلطنة" المقام أي نقل جوّه العام من المؤدي للمستمع، تختلف تلك المحطات من مقام لآخر، ويحتاج التفريق بينها – عند المؤدي والمستمع – لطول الدربة.
مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين صاحب الحراك الاقتصاد الاجتماعي تطورا تكنولوجيا تجلى في تقنيات التسجيل، بظهور الأسطوانة والتي كما حددت بشكل أكثر صرامة المدة الزمنية للعمل الفني، فهي أيضا ضمنت حفظ "التراث" متجاوزة بذلك دور الحُفّاظ.
حرر ذلك الموسيقيين من أن يكون حفظ التراث عبر الرواية الشفهية مهمتهم الأسمى، فتراث أوائل القرن العشرين محفوظ في تسجيلات مازلنا نسمعها حتى يومنا هذا.
فتح هذا المجال للموسيقيين أن يكتشفوا طرقا جديدا في الموسيقى المقامية؛ اكتشافا للإمكانية في ما وراء الحدود دون أن يكون التمرّد على القواعد غاية في ذاته
حدث ذلك كله قبل أن يبدأ عبد الوهاب انتاجه الفني، بل إن عبد الوهاب مثل غيره من مجاييليه والسابقين عليه – أمثال محمد القصبجي وداوود حسني وسيد درويش وزكريا أحمد وغيرهم – كانوا يجتهدون في اكتشاف الإمكانات الكامنة في ذلك الإطار.
كلهم مجددون من حيث إنهم لم يريدوا التمرد غاية في ذاته ولذاته، بل أرادوا أن يستكشفوا احتمالات إنتاج موسيقي يستجيب لمتغيرات عصرهم.
* المهندس.. الأكثر جرأة
نستطيع القول بأن عبد الوهاب كان الأكثر جرأة في تجاوز السير المقامي – وليس التخلي عنه – فما فعله عبد الوهاب كان استكشافا لإمكانات مستبطنة داخل المقام ذاته لم ينتبه إليها السابقون، حيث لم تكن بهم حاجة للبحث عن تلك الاستكشافات.
فنجد أن عبد الوهاب – تربية المشايخ – هو الذي أرسى في مواويله تحديدا منهجا جديدا للتحويلات المقامية. فبدلا من الانتقالات المقامية المُستقرة في الأذن من السلف الصالح، والتي تسمي بالمخزون الموسيقي الذي يستدعيه المؤدي في الموال، كان عبد الوهاب "يُهندس" تلك النقلات سلفا ليكتشف إمكانات جديدة ربما لم يسبقه إليها غيره، مثل أن يأتي بالنهاوند على درجة السيكا، وهو أمر يعرف المهتمون مدى صعوبته.
ليس المهم هو الانتقال المقامي ذاته، فكثير من تلك الانتقالات المقامية أتى بها المشايخ، بل إن المهم هو كيف استطاع عبد الوهاب أن يجمع بين تلك الانتقالات المقامية، بالإضافة لانتقالات إيقاعية في عمل واحد له جوّه المستقل الذي يصعب تصنيفه وفقا لمقام واحد متجانس.
فمثلا مقدمة "دارت الأيام" تبدأ من مقام نهاوند على درجة الصول، وينتقل منه للبياتي على درجة الري ليختمه بالقفلة على مقام راحة الأرواح على درجة السي نصف بيمول، مسلّما للست الغناء.
لا يمكن أن تقول أن تلك المقدمة من مقام النهاوند، فرغم سيطرة النهاوند عليها إلا أن انتقال البياتي ومنه إلى راحة الأرواح يخرج تماما من وجدان النهاوند. ولا أظن أنه يصح أن نقول أن تلك المقدمة من راحة الأرواح، حتى وإن استقرت القفلة عليه، فماذا سنفعل إذن في كل ذلك النهاوند وإيقاعه الراقص؟
حرفية عبد الوهاب أنه جمع بين هذين النقيضين في عمل واحد لا يمكن أن تفصل أجزاءه التي تبدو متنافرة عن بعضها.
لم يرد عبد الوهاب "التمرد" على القديم، فكثير من تلك الانتقالات المقامية وردت مقدماتها في القديم. بل تمكن عبد الوهاب من كل ما قام به لأنه لم يدّخر جهدا في فهم مرتكزات سلطة ذلك القديم، وإمكانات التحرر منه وتأسيس سلطة جديدة تفتح الباب لعالم موسيقي جديد يتفاعل أخذا وردا مع عالم اجتماعي واقتصادي وتكنولوجي مختلف.
ظل عبد الوهاب على شغفه في التعلم واكتساب الجديد حتى في آخر عمره عندما ضاق بمفيد فوزي حين قطع عليه انبهاره بمقطوعة لشوبرت – انبهار التلميذ المُجد – أثناء إحدى بروفات "من غير ليه".
مع الأسف ارتهن ذلك العالم الجديد بين مطرقة موسيقيين يتحدّون العالم بالتنظير على جماليات مُدّعاة "للنشاز" تمردا على سلطة لم تعد موجودة، وبين سندان آخرين يكرّسون الوقت والجهد لاختراع وهم اسمه الأصالة، لا يمكن الظفر به سوى ببتر لحظة زمنية من السياق وتصويرها على إنها نقطة بداية ما.
بين هؤلاء وأولئك تندثر محاولات الفهم وتتباعد احتمالات النظر لأفق موسيقي يبدو متباعدا عن الإدراك.
الكلمات المتعلقة