لميس الحديدي تكتب: البشر أولًا
مقالات مختارة | لميس الحديدي
الثلاثاء ٥ مارس ٢٠١٩
استقال وزير النقل هشام عرفات، ولن يكون الأخير؛ فقد استقال من قبله ثلاثة وزراء، عقب حوادث قطارات مشابهة.
زاد عدد ضحايا حادث محطة مصر على عشرين، وقد لا يكونون آخر الضحايا- للأسف- فقدنا قبلهم المئات، وقد نفقد مئات أخرى. المشهد سيتكرر، الغضب سيتكرر، الحزن سيتكرر ما لم ندرك حقيقة واحدة:
"إن مفتاح انتقال هذا البلد إلى مكان أفضل هو الاستثمار في البشر".
لا نعرف حتى كتابة هذه الكلمات الأسباب الدقيقة للحادث المفزع الذي روّعت مشاهده كل المصريين، فذلك نتركه لتحقيقات النيابة واللجان التي كلفتها الحكومة، لكن وأيًا كانت الأسباب فالكارثة ماثلة أمامنا جميعًا، والضحايا لن يفيد أسرهم كثيرًا اعتذارُ السائق أو حبسه أو حتى استقالة الوزير (وما كنت أتمنى قبول استقالته؛ فقد كان من أكفأ الوزراء).
فالكارثة ما زالت كامنة ليس فقط في منظومة متهالكة تحمل خسائر تصل إلى ١٠ مليارات جنيه وديونًا متفاقمة ترتفع هذا العام إلى ٦٠ مليار جنيه، ولكن في عنصر بشري لا ننتبه إليه وإلى تطوير إمكاناته أو حتى استبداله لو اقتضى الأمر. فقط نقدمه للمحاكمة ونحبسه عقب كل حادث. وبعد قليل تهدأ الأمور وتعود الكرة ويتكرر المشهد.
الأرقام قد تبدو مخيفة وتجعل البعض يظن أننا أمام معضلة لا يمكن حلها فخسائر السكة الحديد تمثل أكثر من ٤٠٪ من حجم خسائر الهيئات الاقتصادية الخاسرة في مصر (١٦ هيئة)، عدد العاملين بها يتعدى ٨٦ ألف وتنقل قضبانها قرابة ٥٠٠ مليون راكب سنويا.
أي أنها حيوية للمواطن المصري- بالذات محدود الدخل- كما أنها أساسية لنقل البضائع الثقيلة -إذا أحسن استخدامها- فتنخفض أسعار نقل السلع وتخفف الأحمال على الطرق السريعة. لكل ما سبق كان لا بد من المواجهة. وبالفعل كانت هناك خطة طموحة تبناها الوزير المستقيل عرفات ودعمتها القيادة السياسية لإنقاذ السكك الحديدية باستثمارات تبلغ ٥٥ مليار تنفق على أربع سنوات.
وبالفعل بدأ تنفيذ تلك الخطة بالتعاقد على جرارات وقطارات حديثة وتجديد وصيانة المزلقانات والقضبان إضافة إلى تعديل القانون ليسمح للقطاع الخاص بالتعامل مع الهيئة لأول مرة والمشاركة في الإدارة وهو القانون الذي يمكن أن يحدث تطبيقه نقلة حقيقية في كفاءة ثاني أقدم سكك حديد العالم.
كل ما سبق يتناول البنية التحتية للسكك الحديدية -وهو مهم وأساسي– لكنه لا يتناول البشر الذين يشغلون تلك البنية ويتعاملون معها. مليارات سترصد للإنفاق على القطارات والجرارات والمزلقانات– وهي فعلا متهالكة وتحتاج إلى تجديد- لكننا لا نلتفت إلى عامل المزلقان، أو سائق القطار أو مهندس الصيانة.
هل هؤلاء مؤهلون للتعامل مع المعدات الجديدة؟ هل يعملون في بيئة منضبطة؟ هل لديهم كفاءات فنية وإدارية للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة؟ هل علمناهم؟ هل دربناهم؟ هل وفرنا لهم بيئة العمل الملائمة والمحفزة على الإتقان؟ أم أننا تركناهم على حالهم: نجدد القطار وننسي سائقه!
إن اقتصادات دول العالم في عصرنا الحديث لم تعد تقيم برأسمالها المادي فقط، بل أصبح رأس المال البشري يقيم كأصل من أصول الاقتصاد، وليس مجرد عامل من عوامل الإنتاج. فالدول القوية اقتصاديا ليست فقط هي الدول التي تملك موارد مادية ولكنها الدول التي تملك موارد بشرية تستطيع أن تحقق النمو وترفع الكفاءة الإنتاجية. وهناك نماذج كثيرة لدول محدودة الدخل ونامية بالذات في جنوب شرق آسيا استطاعت أن تحدث قفزات اقتصادية بالتركيز على مواردها البشرية. ويطرأ دائماً نموذج اليابان التي خرجت خاسرة مدمرة من الحرب العالمية الثانية، إلا أنها تمكنت من عبور خسارتها- وهي محدودة الموارد- بالاستثمار في مواردها البشرية، فتمكنت في عدد من السنوات من القفز إلى مصاف أكبر اقتصادات العالم. فقط بالبشر.
ماذا يعني، إذن، الاستثمار في رأس المال البشري؟
ببساطة يعني: التعليم، والصحة، والتدريب، والتأهيل، وقيم العمل، وخلق بيئة العمل المنضبطة والخلاقة، وتوفير بيئة محفزة للطموح والترقي، إضافة إلى قوانين عمل تسمح بالثواب والعقاب والاستغناء ولا تقيد يد الدولة أو صاحب العمل في التعامل مع عماله بالقانون. كل ذلك من شأنه أن يحقق موارد بشرية تستطيع أن تقود التنمية الاقتصادية.
قد يبدو ذلك كلاما مرسلا تكتبه المؤسسات الدولية في أبحاثها لكنه يحتاج إلى سنوات لتحقيقه، وموارد ضخمة لتنفيذه والأولوية الآن هي لتحقيق نهضة اقتصادية تمكننا بعد ذلك من الاستثمار في البشر.
نفس هذا الجدل عبر عنه رئيس البنك الدولي يونج كيم في مقال كتبه منذ عامين: "بعض الدول تقول لنا سنحقق نموًا لاقتصادنا أولا ثم نستثمر في شعوبنا، لكن الحقيقة أن الاستثمار في البشر هو استثمار في النمو الاقتصادي، بل أصبح أهم كثيرًا من ثروة الأمم المتعارف عليها. فالبشر هم ثروة الأمم".
ويفرض علينا هذا الجدل أن نسأل أنفسنا: ننشئ الطرق الرائعة، فمن يقود سيارات النقل الثقيل على تلك الطرق الجديدة؟
هل هم أكفاء؟ هل يتناولون المخدرات؟ هل يلتزمون بالتعليمات، أم أن نفس الحوادث ستقع على الطرق الجديدة أيضا، لأن السائقين غير مؤهلين؟
نتعاقد على أحدث القطارات، فمن سيقودها؟ ومن سيصونها؟ ومن سيحافظ عليها؟ وهل كان سائق الجرار سيجرؤ على ترك جراره إن كان يدرك أبسط قيم العمل والانضباط؟ نفس المقياس ينسحب على كل مشروع نقيمه وكل مدينة ننشئها.
أولويات الدول قد تكون كثيرا محل جدل، ولكن هل نملك رفاهية السؤال والجدل، أم أن علينا أن نسارع ونعيد ترتيب أولوياتنا، ونقسم مواردنا "المحدودة" كيلا تضيع في الرمال، بينما يموت الناس على القضبان؟
نقلا عن مصراوى