«البطل الشعبي» يبعث من جديد
مقالات مختارة | سحر الجعارة
الثلاثاء ٥ مارس ٢٠١٩
سحر الجعارة
من رحم الموت تولد الحياة، عندما تلفظ شابة أنفاسها الأخيرة وهى تمنح الحياة لطفلها، تماما كما يشق البدر ظلمة الليل ويسقط أستاره لينشر الضياء.. كنا ظننا أن «الشهامة» قد ولت، وأن «النخوة» قد أصبحت «وهما شعبيا»، وأن الشخصية المصرية قد تشوهت وأصبحت اللامبالاة والسلبية عنوانا لها، بعدما فقدت مقوماتها النادرة التى وصفها المفكر الكبير «جمال حمدان»، فى موسوعة «شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان».. وظننا أن البعض قد رفع شعار «أنا مالى» لأنه حرم من حقه المشروع فى التعليم والثقافة والمظلة الصحية، خلال 30 عاما تحول الوطن إلى «سوبر ماركت»، كل الذمم فيه قابلة للبيع وكل الشعارات والضمائر معروضة بأبخس الأسعار!
ظننا أن الإرهاب من خلفنا والفساد من أمامنا، وأنه لا مفر من قبول الإهمال والتبلد والعشوائية لدرجة أننى أطلقت مصطلح «مواطن عشوائى» على بعض من يعيشون على هامش الحياة، يلعبون بالبيضة والحجر للحصول على ثمن «المخدرات».. ولم يكن «علاء» سائق الجرار، الذى فجر رصيف نمرة 6 وأدمى قلوب المصريين فى كارثة وطنية إلا واحدا من هؤلاء الكائنات العشوائية.
لكن النيران التى اشتعلت هى نفسها التى أيقظت مشاعر وضمير ثلاثة أبطال، من عمال أكشاك الشركة الوطنية لإدارة عربات النوم، هم «وليد مرضى» و«محمد عبدالرحمن»، و«محمد ذئب».. لم يفكر واحد منهم، رغم حالة الهلع والذعر، فى الهرب من مواجهة النيران التى تلتهم أجساد البشر.. وظهر «وليد» فى أول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعى، بظهره وهو يطفئ الحريق، وتنهال التعليقات والدعوات له: «ربنا يجيرك من نار جهنم زى ما بردت نارهم يا بطل».
يقول «وليد»: (مخفتش النار تاكلنى أو يحصلى حاجة، واتعاملت بالفطرة).. وبدأ «وليد» يطفئ نار المصابين بالمياه، ثم أسرع لإحضار «بطانية وطفاية حريق»، ليتمكن من إنقاذ 7 حالات، «غير الناس اللى ماتت قدام عينى ومقدرتش أعملهم حاجة».. المؤلم أن «وليد» شاهد البعض يقوم بتفتيش الشهداء والمصابين بحثا عما يسرقونه «بحسب شهادته»!.
ويحكى «عبدالرحمن» عن الحادث، الذى أصيب فيه زميله فى الكشك الأول، ويدعى «محمد عادل»، ونقل للمستشفى مع بداية الحادث، أنه تحرك سريعا بمشاعر الإنسانية كونه أبا لطفلين، لإنقاذ طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره بعد سقوطه بين القضبان، لإخماد الحريق المشتغل به بالبطانية، التى كان يستعين بها لتحميه فى أيام برد الشتاء القارص، «الطفل ده أول ما شوفته والنار قايدة فيه افتكرت عيالى، صورته مش عايزة تفارق عينى».
أما «ذئب» فقد توفى بين يديه طفل من شدة الحريق الذى التهم جسده، لكنه توقف لثوان معدودة من هول الصدمة، ليعاود إنقاذ 10 مصابين أشخاص آخرين كانوا بمواجهة الجرار المشتعل.. وخلال مهمة إنقاذ الضحايا، التهمت النيران جسد صديقه المقرب أمام عينيه، والذى كان أحد عمال النظافة بالمحطة.
كانت الحياة تعاند الموت، والإرادة تطفئ نيران الإهمال والاستهتار، وكأن مصر تؤكد فى كل شدة أن لديها رجالا أقوياء فى المحن، حتى لو كانت تدريباتهم بسيطة على مواجهة الكوارث الطارئة أو كانت إمكانياتهم لاحتواء الحرائق بدائية ومحدودة.. لكنهم يمتلكون «قلوب أسود» مزدحمة بالجرأة والشجاعة وتقدير قيمة الحياة، بقلوبهم ذخيرة تفتك بالفساد والتراخى والضمائر الميتة.
هؤلاء الرجال أعادوا للحياة روح «البطل الشعبى»، بعدما سقطت رموز سياسية ونخبوية كثيرة، وأثبتوا للعالم أن البطولة ليست حكرا على العلماء والمثقفين.. إنها لحظة «إيجابية» نادرة.. فى الوقت الذى تدق فيه أجراس الخطر لتدفعك للهرب!.
نقلا عن المصرى اليوم