مصر والسباق الأخير للدول البازغة
مقالات مختارة | عبد المنعم سعيد
الثلاثاء ٥ مارس ٢٠١٩
عبد المنعم سعيد
فى مقال أخير منشور فى صحيفة «الفاينانشيال تايمز»، ولخصته نشرة «إنتربرايز» اليومية، بعنوان «نافذة الدول البازغة للتصنيع تضيق»، كتب ستيف جونسون- استنادا إلى بحث قام به معهد «ماكينزى» العالمى- أن الاتجاهات الجديدة فى الإنتاج، مثل المزيد من الاعتماد على عمليات «الأتمتة» سوف تعنى أن الاعتماد على الأيدى العاملة الرخيصة سوف تكون أخبارًا سيئة للدول التى كانت تأمل فى النمو الاقتصادى، من خلال الاعتماد على استراتيجية الاعتناء على العمالة الكثيفة لتصنيع السلع وتصديرها. أسوأ من ذلك أن اتجاهات التقدم التكنولوجى تسير بشكل متزايد فى اتجاه الدول المتقدمة. مؤشرات أخرى سوف تكون محبطة للدول البازغة، مثل تزايد الطبيعة الإقليمية للتجارة بين الدول الأوروبية والآسيوية، وارتفاع نصيب الخدمات مقارنة بالتجارة فى اقتصاديات الدول خلال العقد الأخير. هناك المزيد من التفاصيل فى المقال وفى التقرير، ولكن ما يهمنا ماذا يعنى كل ذلك لمصر التى تحتسب عالميا ضمن الدول البازغة، الذى هو تعبير عن دول مرشحة أو لديها فرصة لكى تعبر الخط الفاصل بين التخلف والتقدم، ومن الفقر إلى الستر، ومن الزراعة والرعى إلى الصناعة. هى دول ببساطة يمكنها «التخرج» فى صفوف الدول الأقل حظا ونصيبا من التقدم العالمى، إلى قائمة الدول الأسعد حظا، وهى التى تحقق معدلات عالية للنمو، وعلى الأغلب فإنها تنضم إلى نادى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية.
فما حدث خلال القرنين الماضيين أن دول العالم كان أغلبها فقيرا ومتخلفا، ولكن مع الثورة الصناعية الأولى فإن عددا من الدول أغلبها فى أوروبا «تخرجت» اعتمادا على صناعة كثيفة العمالة (الغزل والنسيج ومن بعدها الحديد والصلب وما ترتب عليها من منتجات). كانت هناك الدول الراسخة فى هذه الصناعات، وأمامها جاءت دول «بازغة» أخذت فى تحديها ليس فقط فى الصناعة، وإنما أيضا فى المنافسة الدولية. الخلاصة أن القرنين الماضيين شهدا متواليات من الدول التى تخرجت فى حالتها البدائية إلى صفوف الدول المتقدمة، وكانت البداية فى أوروبا، أو غرب أوروبا تحديدا؛ ثم لحقت بها آسيا، ومؤخرا خلال العقود الثلاثة انضمت دول كانت «بازغة» إلى صفوف هذه الدول فى أمريكا الجنوبية وشرق أوروبا. والحقيقة أن انتشار المعرفة، والتوسع الجارى فى السوق العالمية، والقفزة الضخمة فى المنتجات الكونية- جعلت استعداد دول للدخول إلى السوق العالمية ضرورة من ضرورات السوق الرأسمالية فى النظام الاقتصادى الدولى. وبات هكذا لكل زمن دُوله البازغة التى تتسابق فيما بينها، وتبحث عن مكان لها بين الكبار فى السوق الكونية.
الحالة المصرية كانت فريدة فى كونها حققت مكانة «الدول البازغة» عدة مرات فى تاريخها الحديث، ولكنها فى كل مرة أخفقت فى تحقيق «الاختراق» المطلوب؛ وحدث ذلك فى عهدى محمد على وإسماعيل وفى العقد اللاحق على ثورة ١٩١٩، وبعد الحرب العالمية الثانية، ولفترة قصيرة خلال الستينيات من القرن الماضى، وكانت هناك ومضات منها، خلال السبعينيات، والتسعينيات، ثم النصف الثانى من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. كان ذلك تكرارا لما أشرنا له فى مقالات سابقة عن حالة الإخفاق المستمر فى مصر الحديثة والتى يمكن استخلاص أسبابها فى التطورات الدولية غير المناسبة سواء كان ذلك فى التكنولوجيا أو توزيع القوى الدولى، أو العجز عن إدراك أسباب التقدم وعلى سبيل المثال فقد ظلت الأمية موجودة رغم نهايتها فى الدول البازغة الأخرى، وثالثها أن الحالة السياسية واتخاذ القرار السياسى كثيرا ما أجهض محاولة البزوغ وترقيتها إلى «التخرج» إلى حيث سبيل التنمية المستدامة (معاهدة لندن بالنسبة لمحمد على وصندوق الدين مع إسماعيل والانهيار الاقتصادى العالمى ١٩٢٩ ونكسة يونيو ١٩٦٧ والثورة فى ٢٠١١). الآن فإن مصر تواجه مرة أخرى هذه الحالة، فكما هو ظاهر من المقال المشار إليه أن التحديات التكنولوجية تتزايد، وهى كما تهدد كل الدول البازغة الأخرى فإنها تهدد مصر هى الأخرى خاصة أن قاعدتها الصناعية تعتمد إلى حد ليس بقليل على اليد العاملة (الغزل والنسيج والحديد والصلب والأسمدة والألومنيوم ومعدات البناء) والتى هى الأخرى كثيفة الاستخدام للطاقة. أضف إلى ذلك أن المنافسة بين الدول البازغة تتزايد، فبنجلاديش تنافس بقسوة فى مجالات الغزل والنسيج، كما أن الصين والهند- أصبحتا حالات خاصة من الدول البازغة- تكادان تحتكران المنتجات الكثيفة العمالة، وربما كان الجديد فى أمرهما أن الصين قررت الخروج من هذه السوق بعد أن اخترقت بالفعل مجال الدول المتقدمة.
الآن فإن مصر تخوض تجربة جيدة، وللعام الثالث على التوالى؛ فإنها تحقق معدلات نمو تتجاوز ٥٪، ورغم أن ذلك لا يزال أقل مما هو معتاد فى الدول البازغة، مثل إثيوبيا التى كانت تحقق ١٠٪، وفى العام الماضى الذى مثّل نكسة تنموية، فإن معدل نموها كان ٧،٧٪، إلا أن استمرار التصاعد حتى يصل إلى ٦٪ فى العام القادم يظل نسبة معقولة. يضاف إلى ذلك أن القاعدة الاقتصادية المصرية بين الزراعة والصناعة والخدمات أكثر تنوعًا من غيرها من الدول البازغة. ولكن ذلك لا يكفى لتحقيق مصر نقطة العبور إلى الدول المتقدمة، حيث تتحقق التنمية المستدامة حتى عند نهاية تطبيق «رؤية ٢٠٣٠» فى نهاية العقد المقبل. تحقيق ذلك سوف يتطلب أولًا ارتفاع معدلات النمو لكى تتجاوز ٨٪، وتظل بعد ذلك على حالها لعقد من السنوات. وثانيا أن يكون واضحا أن قيام الدولة وحدها بهذه المهمة لا يكفى وأن الدول التى انتقلت من البزوغ إلى الاختراق كان ذلك بارتفاع معدلات نمو القطاع الخاص، وللأسف فإن ذلك ليس حادثا. وثالثا أن ارتفاع نصيب الصناعة والزراعة والخدمات المصرية لن يكون ممكنا دون مشاركة الاستثمار الأجنبى الذى يرفع النصيب التكنولوجى فى صادراتنا؛ والحقيقة أنه رغم الإنجازات التى حدثت مؤخرا فإن الاستثمارات الخارجية فيما عدا النفط والغاز كانت متواضعة للغاية. ويحدث ذلك نتيجة تاريخنا المضطرب فى استمرار الإصلاح، وللتعامل مع الشكوك فإن تواجدًا لصندوق النقد الدولى فى العملية الإصلاحية سوف يعطى اطمئنانا، كما السير بسرعة على طريق خصخصة شركات القطاع العام سوف تكون مفيدة. ورابعا القرارات السياسية خلال المرحلة المقبلة سوف يكون لها انعكاساتها على الوضع الاقتصادى المصرى، ومدى استثمار الموقف الإيجابى للمؤسسات الاقتصادية الدولية من الاقتصاد المصرى فى دعم توجهات الاستثمار الخارجى بين الدول البازغة. لقد حققت مصر الكثير خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ولكن هذا الإنجاز مثل الإنجازات التى تحققت فى فترات من تاريخنا تحتاج إلى قدر كبير من الرعاية والحرص والحكمة.
نقلا عن المصرى اليوم