بقلم:عزيز الحاج
 
الفصل الثامن- اليسار في العراق والعالم العربي
 
عام 2006 أجبت على أسئلة للصحفي العراق الأستاذ مازن لطيف علي حول الديمقراطية في العراق ودور اليسار. وأعرف أن الأجوبة نشرت في كتاب صدر ببغداد. 
هنا أود التأكيد مجددا على بعض الملاحظات، مع ملاحظات جديدة.
أولا، عن الديمقراطية ومعناها، وركائزها، وقيمها، ونحن نرى عنوان الديمقراطية قد صار رائجا مع الانتفاضات العربية.
هل الديمقراطية هي في مجرد انتخابات حرة، وأيا كانت دوافع وخيارات الناخبين؟ وهل كل عملية انتخابية حرة تشكل خطوة ديمقراطية متقدمة في الطريق لبناء النظام الديمقراطي؟
 
موضوع كتبت فيه مرارا، معتبرا أن الانتخابات لوحدها ليست المعيار الأوحد للديمقراطية. الديمقراطية هي ثقافة، وممارسة، وعادات، ومنطلقات. والمنادون بالديمقراطية يجب أن يبدءوا بممارستها على أنفسهم وتنظيماتهم إن كانوا من أصحاب التنظيمات- أي كما يقول الإمام علي: من أراد أن يكون معلما لغيره فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه ليكون قدوة عملية للآخرين. وقبل أن ننظر لوجوه الآخرين، فلننظر لوجوهنا نجن في المرآة. والأحزاب والقيادات السياسية التي تخنق النقاش داخل حلقاتها الداخلية، وتحظر الرأي المخالف لا يمكنها ادعاء العمل لناء الديمقراطية في بلدها. ولذا، فقد كنت، مع مثقفين عراقيين آخرين، أعتقد أن الجدول الزمني المتسرع لانتقال السلطة في العراق كان لغير صالح الديمقراطية، إذ جاءنا بانتخابات لم تتوفر ظروفها ومواصفاتها المدنية الحديثة، وكانت النتيجة انتصار أحزاب الإسلام السياسي ودور رجال الدين في الانتخابات، وما جره ذلك من نظام المحاصصة. 
لقد قلنا إن الانتقال للديمقراطية ليس كسلق البيض، وطالبنا بتأجيل كتابة الدستور عاما على الأقل بعد الانتخابات الأولى، وتشكيل هيئة خبراء قانونيين مختصين مع ساسة متنورين لوضع المسودة الدستورية بلا عجلة.
 
إننا اليوم في وضع يستطيع فيه رجل متخلف كمقتدى الصدر أن يخرج مظاهرات " مليونية" حاشدة، في حين يعجز مجموع من يعتبرون قوى ديمقراطية [ عدا التحالف الكردستاني] عن جميع ربع 100 ألف متظاهر مثلا.فهل هذه الجماهير  المغسولة أدمغتها قادرة اليوم على سلوك الطريق الديمقراطي؟! إن التسرع والارتجال باسم نقل السلطة سلط على الشارع الغوغائية المذهبية والسياسية على حساب البرامج السياسية الوطنية القائمة على مبدأ المواطنة والخيمة الواحدة. ولهذا التطور أسبابه من سياسات وممارسات النظام الطائفي الشوفيني المنهار، والتمييز الصارخ الذي مورس ضد الشعب، وخاصة ضد الشيعة والأكراد، مما سمح لبعض الأحزاب والساسة انتحال صفة تمثيل شيعة العراق وجر جماهير غفيرة وراءهم. كما هناك الجهل والأمية، وندرة الممارسات الديمقراطية للمواطنين في كل العهود. فكيف كان يمكنهم أن يحسنوا اختيار ممثليهم برغم حرية الانتخابات.
 
إن الديمقراطيات الراسخة بنيت بعد عقود وعقود من الانفجارات، وتعدد المسارات، حتى صح الصحيح بعد أن كان الموطنون قد تدربوا على الممارسة الانتخابية، وتشبعوا بالقيم الديمقراطية. وكما كتبت في أكثر من مناسبة، فإنني لا أظن أن الثقافة السائدة في الشارع العربي تساعد على انتقال سريع إلى دولة مدنية ديمقراطية. وهذا لا يعني بالطبع أنه لا يجب النضال ضد الظلم والاستبداد والانتفاض عليهما، ولكن ما أقصده أن النتائج قد لا تكون كما يراد وقد يتسلق السلطة من هم الأسوأ.  
إن القوى الديمقراطية العراقية لها تاريخها العريق، منذ بداية الثلاثينات، كما لها أخطاؤها في التشنج السياسي وعدم المرونة. وتضم هذه القوى تيارات مختلفة، منها اللبراليون الإصلاحيون، كالحزب الوطني الديمقراطي، ومنها الديمقراطيون الراديكاليون الأقرب لليسار، أمثال عبد الفتاح إبراهيم،، ومنها اليسار الماركسي، بتعدد مذاهبه ومدارسه وتجمعاته. ولعل الأبرز منها اليوم في العراق، والمعروف أكثر هو الحزب الشيوعي العراقي. وبصراحة لا أعرف الكثير عن بقية التنظيمات الموجودة اليوم بعنوان الماركسية، من غيفارية وماوية وشيوعية "ثورية" وغيرها، ولست على اطلاع كاف لتوجهاتهم ومواقفهم وأساليب نضالهم. وفي الماضي، كان الشيوعيون في العراق والعالم يدعون احتكار اليسار الماركسي والاشتراكية، ولا يعترفون بأن من الممكن أن يوجد في البلد الواحد أكثر من تنظيم ماركسي يتبنى الشيوعية عنوانا، ولو باسم آخر.
 
مع ذلك، فإن ما لا افهمه كيف يمكن اتخاذ ماو تسي تونغ معلما ومرشدا، وقد مر أنفا ملخص ببعض ما اقترفه بحق شعبه وبلاده.لا أعرف منطق من يختارونه لحد اليوم معلما لهم؟!
 
إن اليسار الماركسي، أقصد الشيوعي، في العراق قد تهمش دوره منذ عقود لأسباب، في مقدمتها فظاعة القمع الفاشي الذي تعرض له في العهد البائد، ولكن أيضا أخطاء سياسية وتنظيمية فادحة لا يزال الكثيرون في صفوفه لا يعيدون النظر فيها. وفي عهد ما بعد صدام، فإن الشيوعيين وبقية اليساريين ليست لهم نفس الإمكانات المالية والركائز الشعبية التي لأحزاب الإسلام السياسي. وقد ألحق النظام  السابق خرابا ثقافيا وأخلاقيا بالشارع العراقي. فلا عجب أن يختار معظم الشيعة مرشحين من الأحزاب الشيعية، وأن ينتخب الكردي أحزابا كردستانية، بل حتى الشيوعيون أنفسهم توزعوا منذ العهد المنصرم إلى تنظيمين عربي وكردستاني.
 
أجل، إن اليسار العراقي مهمش، مع الأسف، ولكن الوضع غير ميئوس منه. فلليسار جذور عميقة في تاريخنا الحديث، وله صفحاته  المجيدة وتضحياته برغم تكرر الأخطاء. وإن الخطوة المطلوبة الأولى، حسب اجتهادي، هي إعادة نظر جذرية في المسيرة كلها واستنباط الدروس، والاعتراف بما كان خاطئا. وحين أقرأ مثلا تصريحات أو مقالات عن العهد الملكي وكان اليسار لم يقترف خطأ ما، فهذا كثير! وحين لا يزال البعض يصفون عبد الكريم قاسم بالديكتاتور، فهذا غير صحيح. وحين نرى حملات اليسار، بكل مذاهبه ومدارسه، على العولمة واللبرالية [ في الغرب أقسام من اليسار تقف الموقف نفسه]، فإنني أقول كيف نعادي العولمة وهي داخلة في كل مسار العصر وتفاصيل حياتنا! وما هو البرنامج البديل لأعداء العولمة؟ هل هو ترك اقتصاد السوق، والعودة للتخطيط الاقتصادي المركزي الذي ثبت فشله المدوي حتى أن روسيا والصين نفسيهما تأخذان اليوم باقتصاد السوق. ولكن الاقتصاد الغربي هو من المرونة بحيث يستطيع كبح انفلات المؤسسات المالية الفردية، كما حدث ويحدث في أميركا وأوروبا من تدخل الدولة في الأزمات المالية. 
 
إن موقف اليسار من اقتصاد السوق وضد العولمة منطلق، كما أرى، من العداء للبرالية المقترنة عندهم بالولايات المتحدة. والحال أن العولمة بدأت منذ قرون وعلى مراحل منذ تزايد التبادل التجاري الدولي، والترابط الاقتصادي والتجاري بين الدول والقارات. والنظرة للولايات المتحدة يجب أن تكون منصفة، وأعني نقد أخطائها وجرائرها ومواقفها الضارة بالشعوب الأخرى، مع تقييم موضوعي للمواقف التي تلتقي مع مصالح هذا الشعب أو ذاك. فأميركا والغرب هما من أنقذا شعوب البوسنة وكوسوفو المسلمة من القمع الدموي المتعصب. والدول الغربية هي اليوم مع الانتفاضات العربية، بالعكس من مواقف روسيا والصين وكوبا وكوريا الشمالية. وطبعا الغرب يبحث أيضا عن مصالحه. وهذا طبيعي، ولا ينتظر من أية دولة ألا تنطلق من مصالحها. وشخصيا كنت متشبعا بكراهية أميركا حتى أواخر التسعينيات، وهو ما يمكن قراءته في كتاباتي في تلك الفترات. وقد رحت تدريجيا أحاول أن أكون موضوعيا لأدرس كل حالة على حدة، وخصوصا في أعقاب 11 سبتمبر، ثم قرار الحرب على النظام الصدامي.
 
فلنر كيف يتطرف أقصى اليسار الغربي. فقبل سنوات كتبت صحفية إيطالية من أقصى اليسار مقالا في "الأنديينديت" اليسارية أن  كلا من بن لادن وتوني بلير متشابهان؛ فكل منهما "طرح آراءه وأفكاره بشرف من خلال تقاليد بالية ومحبطة رفضاها." وتمضي المحروسة لتقول إن بن لادن انتزع "إعجاب الأجيال الشابة"، وله مثل بلير "شخصية جذابة." وبن لادن في نظرها حقق للإسلام، ولأول مرة منذ 400 سنة، تجديد الحياة، وهو "يقود تحديا لأكبر قوة وحيدة في العالم." [ انظر تقرير إيلاف عدد 8 يونيو ـ حزيران ـ 2005 ]. ويشبه هذا الرأي تقدير الكاتب اليساري المتطرف المعروف، نعوم شومسكي، الذي يعتبر أن بن لادن "يقود آخر ثورة إسلامية "في العالم- ربما اعتبر شومسكي تصفية بن لادن تصفية للثورة الإسلامية المزعومة!!
 
إن هذا الإعجاب بالإرهاب الأصولي الإسلامي لمجرد عدائه لأمريكا قد يتجلى عند أوساط يسارية أخرى، في الغرب وفي العالم العربي، بأشكال أخرى مموهة غالبا، وهو يكاد يلتقي موضوعيا مع الهوس الإسلامي والقوماني في الشارعين العربي والإسلامي بتمجيد كل ما يلحق ضربة بالغرب وأميركا خاصة، وذلك مهما فعلت حتى، ولو بفضلها تمت إزاحة طاغوت دموي في العراق، ولو أن كثيرين من اللاعنين يهرعون لدخول "الجحيم" الأميركي والأوروبي الغربي، وبأية وسيلة، ويتنعمون بحرياتها ومساعداتها!  مظاهرات أعداء العولمة في الغرب كل عام تقريبا، وما يرافقها من أعمال عنف ونهب وحرق، يحمل أصحابها في فكرهم وسلوكهم تناقضات عميقة وغريبة، على حد تعبير المفكر الفرنسي ريفيبل، في بداية قرننا، وحيث كتب:
" إن مناهضة العولمة تحمل تناقضات عميقة وعجيبة: إنها تحارب الرأسمالية الديمقراطية اللبرالية التي تقدم العون للدول الفقيرة، وتحارب منظمة التجارة الدولية التي تعمل على تمدين التجارة الدولية [ جعلها غير وحشية]، في حين لو طبقت البرامج العاطفية وغير الواقعية لدعاة مناهضة العولمة، كغلق الحدود، ووضع الحواجز في وجه السفر والفيز، لما كانت مظاهراتهم الشهيرة في سياتيل وغوتبرغ ومونبيلية وجين وغيرها! وهم تظاهروا بعنف كبير ضد مؤتمر لقمة الدول الصناعية كان ضيوفه البارزون زعماء إفريقيا الذين جاؤوا لطلب زيادة المساعدات. وكان جورج بوش نفسه من طالب بزيادة المنح والقروض لشؤون الصحة والتعليم في إفريقيا. وهذه الدول لا تطالب بغلق الحدود، بل، على العكس، تطالب بفتحها أكثر لتسويق منتجاتها ، وخاصة الزراعية منها."   
 
إن اليسار العراقي والعربي مدعوان لاستنباط الدروس من انهيار جدار برلين والكتلة السوفيتية، ومسايرة الحزب السوفيتي بما قي ذلك التحامل على الأحزاب الشيوعية الأخرى ذات النهج الرامي للاستقلالية كالعديد من الأحزاب الشيوعية الأوروبية، [ الشيوعية الأوروبية] ووصفها بذات الميول القومية الضيقة. المطلوب نزع كل وهم بإمكان عودة الماضي كما كان. ومع إنهدام ذلك الجدار انطوى عصر من الديكتاتوريات المغلقة، والجمود الفكري وهضم حقوق الإنسان.
 
إن من حسن الحظ أن الانهيار السوفيتي يسمح للشيوعيين العرب أن يرسموا سياساتهم باستقلالية بدلا من  ممارسات أمس بانتظار مواقف الأخ الأكبر أو عرض الخلافات السياسية عليه ليجد الحل*! كما أرى، مع مثقفين آخرين من شيوعيين سابقين وغيرهم، ضرورة إعادة النظر حتى في الاسم، بتبديل اسم الحزب الشيوعي لاسم أكثر تقبلا في ظروف اليوم وأوضاعه، وهذا مطلوب أيضا من كل التنظيمات اليسارية التي تعلن عن تبنيها للماركسية. فلا ثنائي المنجل والمطرقة، ولا الاسم القديم عادا يصلحان للأوضاع الجديدة، عالميا، وعربيا، وعراقيا.  
 
إن المفكر اللبرالي الفرنسي الراحل جان فرانسوا ريفيل يرى أن اليساري هو من يريد التقدم والتغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، وذلك بصرف النظر عن العناوين التقليدية والأوصاف المتعارف عليها. فمثلا من يعتبرون تقليديا في فرنسا يسارا هم بوجه عام يعرقلون كل إصلاح اجتماعي واقتصادي تستوجبه الضرورات. والشيوعيون الفرنسيون، مع تنظيمات أقصى اليسار، يظلون ينادون بسقوط العولمة، ويستخدمون خطابا لا تفهمه الجماهير الواسعة. ولذا تراجع لحد مأساوي دور الحزب الشيوعي، ودخلت صحيفته في ضائقة مالية وقد اضطر لاختيار زعيم حزب العداء للعولمة من أقصى اليسار ليكون مرشحا عنه للانتخابات الرئاسية المقبلة. 
 
ومن حجج أعداء العولمة أنها أدت لزيادة الهوة بين الشمال والجنوب وأن الفقير ازداد فقرا والغني ازداد غنى. وهنا نوع من الخلط. 
أولا، إن دولا من الجنوب قد صعدت لمرتبة دول الشمال المصنعة، ومنها الهند والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية وغيرها. وثانيا لا يمكن سد الهوة نهائيا بين الشمال والجنوب لأسباب تاريخية وحضارية، ولكن من غير الصحيح أن فقراء الجنوب ازدادوا فقرا بالنسبة للماضي، وإن مستويات المعيشة في أكثر دول الجنوب ارتفعت بالمقارنة مع ما قبل عقود، وإن كان ذلك غير كاف، خصوصا مع الأزمات المالية العالمية المتلاحقة ومع زيادة النسل في العديد من دول الجنوب كنيجيريا ومصر ودول عربية وإسلامية وأفريقية غيرها. كما أن مناهضي العولمة يتناسون دور الفساد في تدهور الأوضاع المعيشية للعديد من دول الجنوب والأفريقية خاصة، ناهيكم عن الحروب المحلية والإقليمية. وها هم أطفال الصومال ونساؤها وشيوخها يموتون جوعا بسبب سوء الأوضاع السياسية ونيران " الشباب الجهادي" الذي يمنع وصول المساعدات الإنسانية لمناطق في الصومال. ولننظر: لمن تتطلع الشعوب المنكوبة لتقديم المساعدات؟ لروسيا؟ أم للصين؟ أم لكوريا الشمالية الميتة هي جوعا، عكس المستوى المتقدم لكوريا الجنوبية!؟ أم هي تتطلع للدول الغربية "الرأسمالية المعولمة"؟ وكانت الولايات المتحدة تقدم لوحدها أكبر المساعدات لأفريقيا مع أنها لم تستعمر بلدا أفريقيا يوما. وهذه الحقيقة لا تعني غض النظر عن مواقف أميركية وغربية، سابقة أو لاحقة، تضر بمصالح الشعوب. فالنقد يجب أن يكون في مكانه ومبررا.
 
[* يروي الراحل زكي خيري في مذكراته أن سكرتير الحزب الشيوعي العراقي الراحل، الشهيد سلام عادل، جاء المكتب السياسي في أواخر  آب 1959 باقتراح حل تنظيمات الحزب الشيوعي في الجيش مراعاة لهواجس عبد الكريم قاسم. وكان يؤيده المناضل عزيز محمد. ولما اشتد الخلاف قرروا عرض الخلاف على الحزب السوفيتي، فأتى بضرورة بقاء ذلك التنظيم كدليل على أن الحزب العراقي حزب الثورة!!  [ ص 23 من " صدى السنين"]