لغة أهل الجنة.. هل حبست الفكر فى جهنم؟
مقالات مختارة | خالد منتصر
الجمعة ١ مارس ٢٠١٩
خالد منتصر
اللغة العربية أفضل لغات العالم، لغة مقدسة، لغة أهل الجنة... الخ.
لا أعرف من أين وكيف اكتسبنا تلك الثقة ونحن نلقى بتلك العبارات المطاطة التى لا تملك سنداً علمياً لها على الإطلاق، وكما احتكرنا الجنة لأننا أفضل أمة، فقد احتكرت الأمة أفضل لغة، والحقيقة أننا لم نكن الوحيدين الذين ادعينا ذلك، ولكن جميع الأمم والثقافات والقبائل زعمت أن لغتها هى أفضل اللغات التى هى، وياللصدفة البحتة، لغة أهل الجنة، وما زال البحث جارياً عن مصدر معرفتهم السر السرمدى!
وقد عرض لهذا الموضوع المدهش الكاتب موريس أولندر فى كتابه «لغات الجنة: العنصرية والدين والفلسفة فى القرن التاسع عشر»، المنشور بالفرنسية 1989، وتحدث عن زمن ما قبل عصر النهضة وكيف أن النظرة الرسمية تبنت أن العبرية هى اللغة التى تحدث بها آدم فى الجنة، وهناك من قال إنها السريانية أو الكلدانية، وبعد عصر النهضة هناك من قال إنها الفرنسية، وهناك من اعترض بأنها الألمانية، وقال آخرون إنها السويدية... إلخ، وهذا ما أطلق عليه د.حمزة المزينى «التحيز اللغوى».
ليست لدينا مشكلة فى ادعاء كل شعب أن اللغة المعتمدة والرسمية فى الجنة هى لغته، وبرغم أن كل الشعوب قد تخلت عن هذه النظرة الاحتكارية للغة الجنة، فإننا ما زلنا نحن الوحيدين الذين نقاتل حتى الآن لإثبات قداستها، لكن ما هى المشكلة؟، أليس هذا الادعاء الشوفينى نوعاً من الفخر من الممكن أن نمرره ونتسامح معه مثلما نتسامح مع تشجيع كرة القدم الانحيازى الحماسى؟
أعطيكم مثالاً تطبيقياً سريعاً، هل يستطيع أحد أن يخبرنى ما هو المنطق فى صيغة المثنى، الذى يحمل الألف والنون مرة والياء والنون مرة؟!!
المنطق أن ما يزيد على واحد يصبح جمعاً ويكفى ذلك، ما الداعى إلى المثنى؟، ما العبقرية والعظمة والجمال فى صيغة المثنى ومثله جمع التكسير؟
الحقيقة أن هناك مشكلة، لأن فكرنا الفقهى مستمد ومنسوخ ومقتبس من فكر ومنهج اللغة، ولأن علم اللغة ظهر أولاً وظهر بعده علم الفقه مقتدياً به، ومقتفياً آثاره، فقد ارتدى الفقه لباس اللغة ونقل منهجه وأسلوب بحثه، ولن ينصلح حال فكرنا الدينى ويتصالح مع الحداثة إلا إذا تصالحت اللغة العربية هى الأخرى مع الحداثة، واستوعبت المتغيرات العالمية، وتخلت وتخلينا معها عن ادعاء القداسة المزيف الذى نتعالى به على العالم دون أرضية علمية نقف عليها لنبرر هذا الفخر العجيب، ويتم فصل التوأم السيامى الملتصق، اللغة والفقه، أو بالأصح منهج اللغة الغالب على الفقه والمسيطر عليه.
أنا أحب لغتى العربية حقاً بل أعشقها وأتقنها لكنى لا أدعى لها أى قداسة على اللغات الأخرى، بداية اللغة عرّفت العقل تعريفاً يمنحه قوة الفرامل والكوابح لا التحرر والانطلاق، «عقل البعير يعقله عقلاً وعقله واعتقله»، والعقال هو الرباط الذى يعقل به، العاقل هو «الذى يحبس نفسه ويردها عن هواها»، العقل إذن يقيد ويحفظ ويربط، وهو وظيفة وليس جوهراً كما قال أبو يعلى الحنبلى فى كتابه «المعتمد فى أصول الدين»، ص 101، هذا هو مفهوم العقل فى اللغة، ولنرتحل فى أرض منهج اللغة العربية الذى تأسس عليه الفقه حتى كاد أن يكون، أو هو فعلاً كائن، فرعاً من علوم اللغة، منطق اللغة يرفض السببية العلمية، فهذه الكلمة صحيحة لأن الأعرابى البدوى فى الجزيرة العربية قد قالها هكذا، ولذلك ارتعب الفقهاء من السببية، أو بالأصح الفقهاء المسيطرون الذين كسبوا الجولة واحتلوا كل مساحات العقل الإسلامى حتى تلك اللحظة، اقرأ للغزالى المحذر المفزوع من علم الرياضيات وهو يقول فى كتابه «المنقذ من الضلال»: «إن من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها فيحسن بسبب ذلك اعتقاده فى الفلاسفة ويحسب أن جميع علومهم فى الوضوح وفى وثاقة البرهان كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تداولته الألسن فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم فى هذا العلم، فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض فى تلك العلوم». ويختتم الغزالى تحذيراته من هذا العلم الضال المضل قائلاً «فقَلَّ من يخوض فيها إلا ويخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى»!!، وامتدت تحذيراته إلى السببية فى الطب أيضاً، حتى الأدب والشعر كان قياس ومعيار الجودة ومسطرة القياس كما قال الجاحظ فى «البيان والتبيين» بأنه «من تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابياً»، وذلك «لأن بلاد الأعراب الخلص معدن الفصاحة التامة»، وقمة إبداع الشعر هو فى التوليد وحسن الاتباع.
من أهم من ربطوا ما بين منطق علوم اللغة العربية ومنطق علم أصول الفقه كان المفكر المغربى محمد عابد الجابرى فى موسوعته المهمة «نقد العقل العربى»، وتدوين اللغة ونقلها إلى حالة العلم المنظم عمل عبقرى ومجهد فعلاً لكن أن ينتقل منطقه إلى مساحة الفكر الفقهى فهذا هو الخلل، يقول «الجابرى»: «إذا كانت الفلسفة هى معجزة اليونان فإن علوم العربية هى معجزة العرب»، هنا الفرق بين منهجى البحث واضح ويعطيك تفسيراً لما حدث فى بنية العقل العربى، يصف الجابرى اللغة العربية بأنها «لغة لاتاريخية»، وقد انعكس هذا الأسلوب فى جمع اللغة وضبطها وتقنينها على علم الحديث، علم اللغة يعتمد على التواتر وكذلك الحديث، يقول الجابرى عن اللغة العربية «لغة لاتاريخية، إنها إذ تعلو على التاريخ لا تستجيب لمتطلبات التطور»، ويؤكد أن «جمع اللغة من الأعراب البدو ومنهم وحدهم لا بد أن يترك فيها آثارهم، وخصائصهم الراجعة إلى ظروف معاشهم».
يأتى السؤال عن تلك الطريقة فى تتبع اللغة من الأعراب كمصدر ومرجعية، كيف أثرت على منهج علم اللغة وبالتالى على منهج علم الفقه؟
يجيب الجابرى قائلاً «إذا كان السماع من الأعرابى قد رسم حدود العالم الذى تنقله اللغة العربية الفصحى لأهلها فإن صناعة اللغويين والنحاة قد قَوْلبت بدورها العقل الذى يمارس فعاليته فى هذه اللغة وبواسطتها، العقل العربى الذى تغرسه الثقافة العربية فى المنتمين إليها وإليها وحدها، ذلك أن عمل النحاة لم يكن مقتصراً على استنباط قواعد اللسان العربى من كلام العرب، بل كان فى الواقع تقنيناً لهذا الكلام وتحجيماً له بواسطة قوالب اعتبروها مطلقة ونهائية، ولكى تكون كذلك كان لا بد أن تكون منطقية، أى تكرس فى اللغة صيغاً منطقية تتحكم فى ديناميتها الداخلية وبالتالى تقتل إمكانية التطور فيها»، إذن القوالب المطلقة قتلت إمكانية التطور، اختار القدر الإمام الشافعى لتقنين ونقل علوم اللغة «copy and paste» إلى نواة الفقه الإسلامى، هل كانت صدفة أن يكون فارس نقل هذا إلى ذاك هو الشافعى؟، لا لم تكن صدفة أو وليدة مزاج فقد عاصر الشافعى الخليل وسيبويه وهما من هما فى علم اللغة، هما المؤسسان والمسيطران والمقننان، القاعدة المهمة الأولى التى نقلها الشافعى هى أن مصدر المعرفة والعلم هو النص المنقول وليس العقل أو ملاحظة التجربة أو الواقع، لذلك «لا اجتهاد مع نص»، ومعيار صلاحية النص للتطبيق السند القطعى والدلالة القطعية، القاعدة الثانية هى قوة النقل السماعى وحجيته القوية التى جعلت الشافعى يعلى من مكانة الأحاديث ويمنحها قوة مساوية للمصدر الأول، والقاعدة الثالثة التى استعارها من اللغة هى الإجماع والذى منطقاً ليس بالضرورة أن يكون هو الصحيح، فقد يكون الإجماع على باطل، فعلى سبيل المثال كان الاتفاق على الرق إجماعاً فى قديم الزمان، فهل نقاه هذا من البطلان؟!، القاعدة الرابعة أو الآلية الرابعة هى القياس وهى آلية لغوية وجد «الجابرى» جذرها وأصلها فى التشبيه فهو يحمل نفس الآلية.
حاول البعض عقلنة علوم اللغة ونحوها وصرفها، لكنهم قوبلوا بتعنت يصل إلى حد التكفير، لأنهم وهم يدافعون عن بنية اللغة ويحنطونها ويقولبونها فهم يدافعون عن تحنيط وقولبة الفكر الإسلامى الفقهى كله، وهنا تكمن المشكلة، فأنت تصنع عقلك كما تصنع لغتك، وإذا لم تتطور لغتك فتطوير عقلك مستحيل.
نقلا عن الوطن