الأقباط متحدون - دعائم الحكم الأوتوقراطي في سوريا
أخر تحديث ١١:٠٧ | الجمعة ٢٣ سبتمبر ٢٠١١ | ١٢ توت ١٧٢٨ ش | العدد ٢٥٢٥ السنة السادسة
إغلاق تصغير

دعائم الحكم الأوتوقراطي في سوريا


«تفسير العجز الديمقراطي في الوطن العربي» مجموعة من الباحثين تحرير: إبراهيم البدوي وسمير المقدسي مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2011

كانت البلدان العربية محكومة من قِبل العثمانيين في المشرق العربي بشكل رئيسي قبل الحرب العالمية الأولى، ومن قبل البريطانيين والفرنسيين بعد ذلك. وقد انفصلت مصر وباقي دول شمال أفريقيا عن الحكم العثماني لعقود قبل الحرب الأولى، لتصبح تحت هيمنة القوى الأوروبية.

لم تكن حينذاك الحقوق السياسية للمواطنين مسألة مطروحة، أو افتقاد الحكومات التمثيلية والقابلة للمساءلة والمحاسبة قضية ساخنة. وباستثناء مسألة الاستقلال التي طرحتها الحرب العالمية الأولى كأولوية، ظلت القضايا الأخرى ثانوية على الرغم من أنها في صلب المميزات والتحولات التي تنهض بالمشروع الاستقلالي وتبلوره، وتكسبه الشروط الاجتماعية والثقافية للتحقق، وتردم الفجوة الكبيرة بين الفهم النظري للديمقراطية وتحقيقها الفعلي، خصوصا أن الديمقراطية في البلدان النامية قد تحقق درجة العدل الاجتماعي، والحقوق المدنية والمشاركة السياسية أكثر من البلدان ذات الديمقراطيات الناضجة، التي تلتقط فيها بسهولة تأثير الشركات الرأسمالية الكبرى في العملية الانتخابية، بما فيها السيطرة على وسائل الإعلام، وردم النواقص المنهجية لتتساوى مع القياسات المقبولة جماهيريا.

 

يقع الكتاب في ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأول إطار التحليل الذي يستند إلى البحث المفهومي والعابر للبلدان، بقلم عبد الله الأفندي، أستاذ علم السياسة في جامعة ويستمنستر، لندن. يقارن المؤلف بين سجن أبو غريب المشهور في عراق صدام حسين، الذي تعرض للتدمير وتم سلبه وتجريده من الأبواب والشبابيك، ثم استولى الجيش الأميركي عليه وأعطاه شكلا جذابا بعد تعبيد أرضيته بالآجر، وتنظيف وإصلاح الزنزانات، وإضافة دورات مياه وحمامات ومركز طبي. وبعدئذ مضى أفراد الجيش الأميركي لاقتراف أفعال النظام السابق نفسها، مع قيامهم هذه المرة بتصوير أنفسهم، بقصد التسلية.

وفي الجدال الساخن الذي أعقب تلك الفضيحة، ذهبت السلطات الأميركية ووسائل الإعلام الرئيسية إلى أن التعذيب في سجن أبو غريب كان انحرافا معزولا تعود مسؤوليته إلى حفنة فقط من العناصر الفاسدة في الجيش الأميركي. بيد أن الكثير من المحللين أشاروا إلى أن إساءة المعاملة تعكس تدهور المعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان وترتبط بالسياسات الأميركية الشاملة في العراق وأفغانستان وغواتيمالا، والاستعمال الواسع للتعذيب في السجون الطائرة بدعوى محاربة الإرهاب، كما قارن مراقبون بين الغزو الغربي الأخير للوطن العربي وغزو نابليون بونابرت لمصر سنة 1798. فقد استعمل هذا الأخير أيضا حجة جلب الحرية للعرب، وانتهى إلى كارثة مماثلة هو الآخر.

 

قام كلا القائدين بغزو واحتلال بلد مسلم كبير ناطق بالعربية، وكان كلاهما يحلم بـ«شرق أوسط كبير»، فاستغربا حروب العصابات الطويلة والمرّة والمدمرة التي وجدا نفسيهما فيها. ولم يعبآ بالديمقراطية، بل استغلا رموزها لتضليل الجماهير المحلية، وأظهرا ميلا إلى تصديق دعايتهما، أو على الأقل، إلى تكرارها فترة طويلة حتى بعد أن باتت غير قابلة للتصديق كليا، بيد أن أعدادا غفيرة من رعاياهم الجدد اكتشفت بسرعة أن ما حل بها كان احتلالا، وليس تحريرا.

 

لا بد أن يُلقي هذا التقارب في سلوك النظم، في كل زمان ومكان ضوءا على الفرضيات غير المعلنة التي تشكل كثير من المناقشات الجارية بشأن الديمقراطية. ومن الممكن إيراد أمثلة كثيرة أخرى من الطريقة التي تصرف بها البريطانيون في مواجهة انتفاضة 1857 في الهند، ومن الفظائع الفرنسية في الجزائر، والسلوك الوحشي المستمر في فلسطين، التي يمكن تسميتها جوازا «متلازمة نابليون - صدام» فهي حالة معدية تدفع إلى مزيد من إساءة المعاملة مما يستثير تصاعد المقاومة، فمزيدا من القمع ومحاولات الإخضاع حتى تقع الكارثة.

يميل كثير من المنظرين إلى أن هذه الشعوب لا تفقه معنى الحرية ولا تدرك حقوقها، ولا تعي الديمقراطية. لذا فالإجراءات المتخذة بحقهم ليست ظالمة، بل تعبر عن تفسير ثقافي موارب لإدخال المدنية «لأن الديمقراطية لا تزال شكلا للحكم يصعب جدا بناؤه وإدامته».

 

لكننا يمكننا أن نستخلص استنتاجا منطقيا واحدا معاكسا للوم الضحايا، فهل انتفض المصريون ضد «حقوق الإنسان» أم ضد الظلم الذي لا يطاق لسلطة أجنبية حكمت البلاد بقوة السلاح؟ ثانيا: إن مقدار القمع الضروري لبقاء نظام ما يتناسب مع عمق وسعة رفض الشعب له. وهكذا، فإن قيام قوات الاحتلال الأميركي في العراق باستعمال وسائل القمع التي استعملها البعث الذي أزاحته هو علامة على أن تلك القوات تواجه مقاومة مماثلة من جانب العراقيين. أما الديمقراطية فيُفترض، بالتعريف، أنها لا تواجه مقاومة شعبية لأن الديمقراطية هي حكم الشعب الذي لا يمكن أن يثور على نفسه. وعليه، فإذا استثار نظام ما مقاومة قوية، فهو نظام غير شعبي بالتعريف.

 

العجز الديمقراطي/ النموذج السوري

يفرد الكتاب فصلا موسعا لدراسة دعائم الحكم الأوتوقراطي في سوريا، أسهم في كتابته رائد صفدي من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ولورا مونرو الباحثة الاقتصادية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ورضوان زيادة، مؤسس ومدير مركز دمشق لدراسة حقوق الإنسان وباحث في مركز دراسات الشرق الأدنى في جامعة نيويورك.

يقول الكتاب إن العوامل التي قادت إلى تواصل الحكم الأوتوقراطي في سوريا منذ سنة 1949 على الأقل، هيأت عوامل عدم الاستقرار السياسي المسرح لسلسلة من الانقلابات، كان آخرها اعتلاء حافظ الأسد سدة السلطة سنة 1970 بانقلاب غير دموي. وقد استمر الحكم الأوتوقراطي للأسد حتى وفاته سنة 2000، وتواصل في ظل ابنه بشار. وفي موازاة ذلك، أخذت سوريا بنموذج للتنمية تقوده الدولة. ومع أنها حققت معدلا مرموقا للنمو الاقتصادي وارتفاعا في مستوى المعيشة، فإن اقتصادها عانى الكثير من عدم الكفاءة وفترات ركود، على الرغم من القيام أحيانا بعمليات تجميلية للإصلاح الاقتصادي.

 

لقد أدرك الأسد العوامل التي جعلت فترات الحكم السابقة له فترات عابرة، فأقام سلطته على أساس النظام الرئاسي، حيث يتخذ الرئيس نفسه القرارات الأساسية في السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. وحكم سوريا بقبضة من حديد طوال ثلاثة عقود تقريبا.

 

وفي ظل حكمه كان الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة يتم ترشيحهم من قبل الرئيس، ومنحهم سلطات تنفيذية محدودة. وتثبت التجربة السورية أن الحكومة لا تحكم على أساس برنامج محدد، بل تتخذ قراراتها على أساس خدمة مصالح النظام الحاكم، وأن أي معارضة تعرِّض صاحبها للاعتقال السياسي بذريعة الأمن، وحالة الطوارئ المفروضة منذ سنة 1963.

ولم يُحكم الأسد قبضته على السلطة بصورة تامة حتى بداية سنة 1982، حين قمع بقوة تمرد الإخوان المسلمين في مدينة حماه. وحدث ذلك بعد وقوع مصادمات بين جماعة الإخوان والنظام يعود تاريخها إلى ما قبل تسلم الأسد السلطة في سنة 1970. وعمد النظام، بعد ذلك، إلى الأخذ بإجراءات كثيرة لإحكام قبضته الأوتوقراطية أكثر. وقد تم الاستبدال بالمديرين العامين لمختلف الوزارات موظفين مساعدين للوزير الذي يمكن تغييره بحسب رغبة النظام. وباتت المناقشات السياسية العامة كلها مراقبة، ونشاطات مجموعات المعارضة مراقبة، والأحزاب خاضعة للقواعد التي يضعها حزب البعث. وقاد احتكار الحزب الحاكم جميع القرارات الأساسية للقطاع العام إلى قيام منهجية فساد منظمة.

 

وخلال الانتخابات البرلمانية لسنة 1998 التي سبقت استفتاء سنة 1999 لإعادة انتخاب الأسد لولاية خامسة، تم السماح بالمناقشات السياسية العامة ضمن حدود معينة. وكان الدافع لهذه الخطوة بعد ثلاثة عقود من الحكم الأوتوقراطي المتشدد رغبة الرئيس في إعادة ترتيب المشهد السياسي والأمني، توقعا لوفاته وتحول السلطة إلى ابنه. ولتحقيق هذا الهدف، تم استبعاد عدد كبير من المسؤولين الكبار واختيار مسؤولين آخرين أقرب إلى ابنه. وتضمنت الاستعدادات الموازية لتسلم بشار الأسد السلطة قيام الأخير بزيارات رسمية وشعبية، في ظل تغطية إعلامية واسعة. كما ظهر في مقابلات رسمية أبدى فيها فهما للتحولات والأحداث الدولية الأساسية.

 

عند وفاة حافظ الأسد سنة 2000، كانت قوى الأمن الجهة الوحيدة التي حافظت على فعاليتها. فالمؤسسات التشريعية والتنفيذية تعرضت للشلل بسبب مرض الأب الطويل والشديد، وهو ما حمل معه موجة أخرى من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، لم يستطع بشار، رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة والأمين العام لحزب البعث وقائد الجبهة الوطنية التقدمية، أن ينفذ ربيع دمشق الذي وعد به وما زال يواصل الفصل بين نظام السلطة وهيكلية الدولة ويعيق الإصلاح الديمقراطي.

 

يظل النظام الأوتوقراطي في سوريا راسخا، على الرغم من بعض الإصلاحات السياسية المحدودة والموعودة، فالديمقراطية لا تزال نظاما لم يتوصل إليه الشعب السوري بعد، على الرغم من التنمية الاقتصادية الملحوظة وغير المستقرة، لأن نظام البعث الذي أمسك بالسلطة واستولى على الدولة. قد تمكن من خلال نظام القيادة التحكم في فرض سيطرته، ونجح في استيعاب قطاع الأعمال الذي قررت قيادته العمل بالقواعد التي وضعها النظام بدلا من المخاطرة (إن لم يفعلوا ذلك) بفقد أعمالهم أو مواجهة الاضطهاد.

 

وقد مكّن النفط وصراعات المنطقة، وخاصة الصراع العربي - الإسرائيلي من إيجاد بيئة مساعدة لسيادة الحكم الأوتوقراطي، كما نجد أدلة على أن نقص الحريات الاقتصادية أدّى دورا مهما في إعاقة الإصلاحات السياسية. فبينما ينتظر الصراع العربي - الإسرائيلي حلا إقليميا/ دوليا عادلا للقضية الفلسطينية، فإنه من الممكن أيضا خدمة المطالب الشعبية، وتلبية الاحتجاجات التي تخدم الأقسام الواسعة من السكان التي تتفاقم وتكاد تتحول إلى حروب أهلية ومذهبية وعشائرية. إن ما يقدمه بشار الأسد ليس هدايا بل حقوق، فالمكافآت المرتبطة بالعقوبات والتهديدات يفتقر مانحوها إلى معرفة الحد الفاصل بين حقهم كقادة وحق الشعب عليهم. فهم يحكمون باسمه وإرادته، وإلا فهم يسيطرون عليه بالقوة، ويجب بالتالي خلعهم.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter