الأسقف القتيل و«حزب يهوذا»!
مقالات مختارة | هاني لبيب
الثلاثاء ٢٦ فبراير ٢٠١٩
هاني لبيب
أصدرت «محكمة جنايات دمنهور»، المنعقدة بمحكمة «إيتاى البارود» فى القضية رقم 3067 «جنايات وادى النطرون» لسنة 2018، حكمها بإحالة أوراق الراهب المشلوح أشعياء المقارى «وائل سعد تواضروس»، والراهب فلتاؤس المقارى، المتهميْن بقتل الأنبا إبيفانيوس «رئيس دير الأنبا أبومقار» بوادى النطرون فى 29 يوليو 2018، إلى المفتى لاستطلاع الرأى الشرعى فى تنفيذ حكم الإعدام بهما، وقررت المحكمة حجز القضية لجلسة 24 أبريل 2019 للنطق بالحكم، وفقاً لقانون الإجراءات الجنائية.
وهناك عدد من الملاحظات المهمة حول القضية التى شغلت السوشيال ميديا، وأثارت الرأى العام خلال الفترة السابقة:
أولاً: تلك القضية «جنائية» بالدرجة الأولى، وليست «طائفية». كما سجلت تحقيقات النيابة اعترافاً تفصيلياً بالجريمة، ومعاينة تصويرية لطريقة ارتكاب الحادث، الذى لا يعلم تفاصيله إلا مرتكبوه. والنيابة فى هذا الصدد تمارس اختصاصاتها، وتأتى المحكمة بعدها لتطلع وتدقق وتتأكد من صحة معلوماتها، حتى يرتاح ضميرها إلى ما تصدره من أحكام، خاصة أن إجراءات التقاضى التدريجية تسمح بالحفاظ على حق المتهم فى النقض حتى نفاد جميع المحاولات.
ثانياً: مثلما كانت تصريحات الكنيسة مرتبكة بالدرجة الأولى مع بداية اكتشاف قتل رئيس الدير.. حدثت فى المقابل حالة استباق عشوائية للحكم، من خلال ترويج كثير من الأكاذيب والشائعات عن الراهبين، مثل تعرضهما للتعذيب، وبالطبع الهدف تضليل الرأى العام، والترويج لصورة افتراضية تحاول تبرئة ساحتهما، وتفتح باب الشك فى صحة اتهامهما، وترسم صورة إيجابية لهما على عدد من صفحات «الفيسبوك» الشخصية والعامة.
كما أن تلك المحاولات كان هدفها التأثير على الرأى العام داخل مصر وخارجها، وهو ما تجلى فى بيان الأنبا أغاثون «أسقف كرسى مغاغة والعدوة» الصادر فى 24 فبراير 2019، والذى اعتبر فيه الحكم الذى صدر بالإعدام على الراهبين هو «حكم ضد عموم الرهبان والرهبنة القبطية والكنيسة كلها»، وهو بيان يفتقر إلى الحكمة الكنسية، ويغازل الرأى العام للمواطنين المسيحيين المصريين، الذين خضعوا لتأثير مرافعات محامى المتهميْن، ولم ينصتوا جيداً لاتهامات النيابة وأدلتها، وقناعة المحكمة بما جاء فيها، وهو ما يجعلنى أتساءل: لماذا لم يوكّل الأنبا أغاثون أو غيره من رجال الدين المسيحى، الذين تبنوا الاتجاه نفسه من يدافع عن الراهبيْن المتهميْن.. مادام استقر يقينهم على البراءة الكاملة، أم أنهم يظنون أن رجال الدين أكبر من المحاسبة القانونية فى حالة إدانتهم بالأدلة والبراهين والإثباتات؟.
ثالثاً: رفضت الذهنية العامة للمواطنين المسيحيين المصريين اتهام الراهبيْن بقتل رئيس الدير، وتقبلوا اعترافاتهما أمام المحكمة بتجاوزاتهما المادية والأخلاقية السابقة، لمحاولة إبعاد تهمة القتل عنهما. وتناسوا أن كل مؤسسة، ومنها الكنيسة، لها امتداد جغرافى وتاريخى، وقد يظهر بها «يهوذا الفاسد» هنا أو هناك، وهذا لا يؤثر بأى شكل فى قيمة المؤسسة وقوتها، كما لا يعنى التجاوز الفردى من أحد التابعين لها فسادَها بالكامل، ولهذا يجب الانتباه إلى محاولات البعض استغلال مثل تلك الأحداث للشوشرة وتصفية الحسابات الشخصية أو الطائفية، ولا ننسى أن «يهوذا» كان مقرباً من السيد المسيح، ومن ضمن تلاميذه المباشرين، وهكذا فإن الفاسد لا يمثل سوى نفسه، وبالتالى نحن نتحدث عن خطأ راهب.. لا خطأ كنيسة أو أديرة، وبالتالى كذلك لن يعيب الكنيسة شرود واحد من أتباعها.
رابعاً: استغل البعض قضية مقتل الأنبا أبيفانيوس لمحاولة تشويه صورة البابا تواضروس الثانى وكذلك تشويه صورة الكنيسة، فهناك من يسعى لتحقيق مصالح شخصية، من خلال تعظيم بعض المشاكل والأزمات، واستخدام السياسة فى أمور جنائية، حيث تم تفسير الأمر على أنه صراع بين الحرس القديم والجديد، أو صراع بين مراكز القوى، وبالتالى تم إشعال مواقع التواصل الاجتماعى بالهجوم والتجاوز اللفظى ضد البابا والكنيسة.
خامساً: روّج البعض لحالة من الخلط بين البابا والكنيسة فى القضية، لتحميل البابا تراكمات سنوات عديدة ماضية فى إدارة الكنيسة، فضلاً عن الخلط المتعمد بين الكنيسة والقضاء كنوع من ممارسة الضغط، وتوجيه الحكم على الراهبين المتهمين، وهى محاولة فاشلة لطمس الحقائق حول أوضاع الأديرة خلال السنوات الأخيرة، حيث تراجع فيها الاهتمام بالدراسات الدينية، وحفظ الإيمان المسيحى المصرى لصالح اهتمامات أخرى ترتبط بمشروعات استثمارية، هدفها الصرف على أنشطة الدير واحتياجاته. وقبل ذلك كله ما حدث للأديرة من اختراقات بعض من لا تنطبق عليهم معايير الحياة الرهبانية وشروطها، وهو الأمر الذى يحتاج إلى إعادة نظر، دون التأثير على الحياة الرهبانية التى تُعتبَر الكنيسة الأرثوذكسية المصرية من روادها منذ نشأة المسيحية. وذلك حتى لا تفقد الرهبنة قيمتها وقوتها وتأثيرها فى الحفاظ على العقيدة المسيحية.
سادساً: دون شك.. ما وصلنا إليه فى هذه القضية إلى الآن يمثل حالة من الفشل فى إدارة الأزمات، واستباقاً للأحداث بهدف فرض وجهة نظرٍ كانت فى كل الأحوال ضد سير القضية، ودليل ذلك الواضح هو البيانات والتصريحات الفردية والشخصية من بعض رجال الكنيسة، والتى تتحمل الكنيسة وحدها تبعاتها.
نقطة ومن أول السطر..
لا أجد مبرراً لوجود أصوات تقبل انحرافات الراهب، ولا تقبل محاكمته وعقوبته فى حالة إدانته وإثبات التهمة عليه.. سوى ازدواجية التفكير فى الخلط بين ما هو دينى مقدس وما هو مدنى متغير يخضع للقوانين.
نقلا عن المصرى اليوم