الأقباط متحدون - الكتابة بالحبر السري في الظلام..!
  • ٠٩:١٦
  • الاثنين , ٢٥ فبراير ٢٠١٩
English version

الكتابة بالحبر السري في الظلام..!

مقالات مختارة | نوال السعداوي

٢٥: ٠٧ ص +02:00 EET

الاثنين ٢٥ فبراير ٢٠١٩

نوال السعداوي
نوال السعداوي

نوال السعداوي
أرقد فى مستشفى الجلاء العسكرى بكوبرى القبة، لتلقى العلاج بسبب مضاعفات فى العينين، بعد عملية الكتاركت. يشرف على علاجى د. ايهاب يعقوب، رئيس قسم العيون بالمستشفى، استقبلنى بابتسامة جميلة، ملأت قلبى بالأمل. وكان وزير الدفاع قد أصدر قرارا بعلاجى على نفقة الدولة، بعد أن أصبح بصرى مهددا.

ترافقنى فى المستشفى ابنتى الكاتبة والشاعرة د. منى حلمى، التى أملى عليها هذا المقال، لتكتبه على الكمبيوتر الخاص بها، وترسل به إلى النشر.

قرأت عن العملية قبل إجرائها. وتأكدت أنها بسيطة ليس لها مضاعفات إلا نادرا. فقط 1% ممنْ يجرونها قد يتعرضون إلى ضعف فى الإبصار. وقد يتدهور البصر سريعا، إن لم يعالج فى الحال. عشت حياتى بصحة ممتازة جسميا، ونفسيا، وعقليا. فقط بعد هذه العملية البسيطة دخلت المستشفى، وقابلت الأطباء، وأدركت ما يعانيه الإنسان البسيط من الشعب المصرى، من ألم المرض، وخطورة فقدان البصر، خاصة فقدان القدرة على قراءة الكلمات. فما بال الكلمات فى حياة إنسانة، لا تعيش دون أن تقرأ وتكتب. الكتابة حياتى. والقراءة ضرورية لى كالتنفس، لا أستطيع أن أعيش، دون كتابة، أو قراءة. منذ طفولتى، وأنا أحدق فى عين الشمس. تغلبت على المرض، وعلى الموت. وعشت عمرى دون أن أذهب إلى طبيب، أو أبتلع حبة دواء. كانت الشمس والرياضة، والهواء، والتغذية الصحية الخفيفة دوائى الوحيد. حتى أخيرا أوافق على إجراء هذه العملية البسيطة جدا، وأثق بالطبيب الذى رشحوه لى فى المستشفى الحكومى، والذى يملك عيادة خاصة يعتنى فيها بمرضاه الأثرياء، أكثر من مرضاه الفقراء فى المستشفى الحكومى. ولهذا السبب لم يهتم بمقابلتى أبدا، لا قبل العملية، ولا بعدها، رغم اتصالى به تليفونيا، وشرحت أن بصرى يتدهور بعد العملية مباشرة، فلم يهتم بمقابلتى، أو متابعة حالتى، مما أخر العلاج، وأصبح فقدان البصر وشيكا. وقد يسألنى سائل لماذا تذهبين إلى مستشفى حكومى؟ فأقول إن المستشفيات الاستثمارية الخاصة ليست أفضل من المستشفيات الحكومية، سوى أنها لا تسلب المريض صحته فقط، وإنما أمواله أيضا. شهدت تجارب مؤلمة لبعض أفراد أسرتى فى أفخر وأشهر هذه المستشفيات. منذ طفولتى تعودت أن أكتب فى الظلام. كنت أحتفظ بمفكرة سرية أدوّن فيها أحلامى، وأفكارى، أخبئها عن جميع العيون فى مكان سرى، لا يعلمه أحد من أفراد الأسرة. وحينما ينام الجميع، وتنطفئ أنوار البيت، وتغمض السماء والنجوم عيونها، ويغيب القمر أكتب. كان الجميع من حولى، يتساءلون كيف أكتب دون قطرة ضوء؟ كيف أرى الحروف والكلمات، دون أن أشعل المصباح؟ كيف كنت أسود الصفحات البيضاء صفحة وراء صفحة!

فى مدرسة حلوان الثانوية، القسم الداخلى للبنات، كانت زميلاتى فى العنبر يندهشن، وأنا أتسلل من سريرى فى الليل، وجميع الأنوار مطفأة، وبعد أن تغلق الظابطة الداخلية عليها الباب، أسير على أطراف أصابعى إلى النافذة ومعى مفكرتى والقلم، وأكتب والسماء سوداء تماما. زميلاتى فى العنبر فى سجن النساء بالقناطر الخيرية، كانت تصيبهن الدهشة، لدى رؤيتى أنهض من فراشى، فى منتصف الليل، وأسجل أفكارى فى الظلمة. الكتابة رغم الظلام كانت تمنحنى سعادة كبيرة، وثقة كاملة فى قوة إبصارى، وقدرتى على قهر الظلم والظلمة.
نقلا عن المصرى اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع