الأقباط متحدون - إكليلُ غار للجميلة: «سميحة أيوب»
  • ١٣:٤٠
  • الأحد , ٢٤ فبراير ٢٠١٩
English version

إكليلُ غار للجميلة: «سميحة أيوب»

مقالات مختارة | بقلم : فاطمة ناعوت

٣٦: ١٠ م +02:00 EET

الأحد ٢٤ فبراير ٢٠١٩

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

 جاءتِ الجميلةُ فى كامل بهائها، مُتوَّجةً بتاج ثقيل تُرصِّعُه آلافُ اللآلئ. فى قلبِ كلِّ لؤلؤة مشهدٌ وفكرةٌ وبيتُ شعرٍ وقلبُ شاعرٍ وروحُ أديبٍ وليالٍ طوالٌ من السَّهر والسفر والقراءة والتدريب الصوتى والحركى والروحى. وصلتِ الجميلةُ على عربة ملكية تجرُّها خيولٌ عربيةٌ قُدَّت من ماء الشِّعر والملاحم والأساطير. ارتقت مِنصّةَ صالونى الشهرى فى أُبَّهةِ الملكات، وتواضع الرسولات، وملاحة المُلهمات. جلستْ أمام الجمهور، فتعلّقتِ الأبصارُ بعينيها اللتين تحملان إرثًا هائلاً من فرائد رفيع الآداب العالمية الصعبة، التى لا يقوى على مطارحتها إلا ذوو البأس وذوو الموهبة من الحقيقيين الذين لا تُدثِّرُهم قشورُ الزَّيف وغُلالاتُ الادّعاء. تكلّمتْ، فتعلّقتِ الآذانُ بصوتها الذى لا يُشبهه صوتٌ. صوتٌ ذو رنين نُحاسىٍّ عميق، يليق بفارسةٍ تمتشقُ سيفَ ثقافتها من غِمْد قلبها، وتقفُ على خشبات المسارح فى مصر والعالم، فتتزلزلُ الأركانُ وتتماوجُ الستائرُ من فرط الجلال والسَّطوة. جلستُ إلى جوارها أنكمشُ فى ارتباكى. هل أجلسُ الآن جوارَ تلك السيدة التى يخفقُ قلبى حين أسمعُ صوتَها الهادرَ يستنطق أفكارَ هوميروس، وسوفوكل، وراسين، وبريخت، ويوسف السباعى، وسعد الدين وهبة، وغيرهم؟! أمرٌ مخيفٌ حقًّا! فرغم تواضعها معى إلى حدّ أن تدعونى صديقتها وابنتها، ورغم سفرنا معًا وتجوالنا على شاطئ البحر، وسهرنا وضحكنا، ورغم قبولها دعوتى لتكونَ ضيفةَ الشرف فى صالونى، إلا أنها تظلُّ الفارسةَ المهيبةَ التى يُخشَى الاقترابُ منها، لا لنِزالها، بل لمجرد مصافتحها. فهل بوسعى الآن أن أجلس جوارها على مِنصّة ساعاتٍ ثلاثًا وأنا رابطةُ الجأش، دون تلعثمٍ وارتباك؟! كان هذا يجولُ بخاطرى منذ صافحتُها فى «نادى الشرق الأدنى للأرمن» بشبرا، حيث مكان الصالون، وحتى ارتقاء المنصّة. أحاولُ استجماعَ شجاعتى وتذكّر ما أعددتُه من كلماتٍ هربت من رأسى جميعُها، حتى أفقتُ على السلام الوطنى يعلن بداية الصالون.

 
هذه السيدةُ الجميلة وقفت تُحاكم الآلهةَ بصوتها العميق فى فُصحى رائقة أجّجتْ وتوّجت مشهدَ الختام فى مسرحية «الإنسان الطيب من ستشوان»، التى كتبها برتولد بريخت فى منتصف القرن الماضى، وكأنه حين كتبها كان فى مخيلته سميحة أيوب.
 
«لماذا يفوز الجُناة بحُسن العواقب، والخيّرون لهم كلُّ هذا الشقاء؟ هنالك شىءٌ أيها النيّرون بعالمكم غلط. مشيئتُكم أن أكون طيبة، وفى الوقت نفسه أظلُّ أعيش. مشيئتكم هذه شطرتنى كما الصاعقة إلى نَفَرين. صُنعُ الجميلِ لغيرى ونفسى معًا؛ لم يكن ممكنًا. ألا أن عالمَكم مستحيلٌ بكلِّ الذى فيه من ناقصاتٍ وكلِّ الذى فيه من تعجيز. ذراعٌ تُمدُّ للجائعين؛ تُعضُّ وتُنهشُ من فورها. ومَن يمنحُ العونَ للضائعين؛ يضيعُ بدورِه. ومَن ذا الذى يستطيعُ التروّى، وكبحَ جماحِ الغضبْ، وبالقربِ منه يموتُ الجياع؟ ومن أين كنتُ أدبّر ما ينقصُ الُمعوَزين سوى من كيانى أنا؟ على أن ذلك كان السبيلَ إلى عثرتى. فثِقَلُ وصايا السمواتِ غطّسنى فى الوحول. فلو أننى دُستُ فوق التعاليمِ لاختلتُ فى مِشيتى. وأكلتُ لحدِّ الشبع. هنالك شىءٌ بعالمِكم أيها النيّرون غلط. فى البَدء كنتُ أحسُّ بغضبةِ ذئبٍ لمرأى التعاسة. ولكن رويدًا رويدًا شعرتُ بطبعى تحوّل. وصارت شفاهى حازمةً صارمة. وأصبحَ طعمُ الكلامِ الرحيمِ بحلقى مُرًّا كطعم الرماد. على رغم هذا فقد كنتُ أسعدُ لو أننى صِرتُ حقًّا ملاكَ العشش. فمازال لى بهجةٌ فى العطاء. ومازلتُ ألمحُ وجهًا ضحوكًا. فأسبحُ بين السُّحُب. خُذونى بذنبى. فكلُّ جريمةٍ اقترفتها يدى كنتُ أبغى بها معونةَ جارى، وحبَّ حبيبى. وإنقاذَ طفلى من النومِ دون عشاء. أجل أيها الآلهة. لقد كنتُ شيئًا شديدَ الصغر. أنا الكائنُ البشرىُّ الضعيف. أمام مشاريعِ حضراتِكم».
 
ذلك هو السؤالُ الوجودىُّ الأبدىُّ الذى حار الفلاسفةُ والحكماءُ فى الإجابةُ عليه: كيف يستطيع الإنسانُ الحفاظَ على طيبته ونقائه وسط عالم ملىء بالقسوة والفساد؟ حين هبط ثلاثةٌ من الآلهة إلى كوكبنا المرزوء بالمحن والمعاصى يبحثون عن «إنسان طيب»، لم يجدوه إلا فى فتاة مُستضعفة لا تجدُ قوتَ يومها. لكن لها قلبًا يحنو على التعساء. وكان عليها أن تستخرج من كيانها رجلًا يحميها من تغوّل الغُلاة. فاعتمرت قناعَ رجل وانشطرت شخصين: فتاة طيبة ورجل قاس. هذا ملخص الحياة التى لم تتعلم بعدُ احترامَ الطيبين وحماية الأنقياء.
 
أشكرُ سيدةَ المسرح العربى، العظيمة «سميحة أيوب» على إثراء صالونى ومنح جمهوره أمسيةً غنية لا تُنسى؛ نثرت فيها علينا من ثقافتها وخفة ظلها وملاحتها ما ندخره فى خزائن أرواحنا آمادًا طوالا. تحية احترام لسيدة توَّجتْ هامتَها هالةٌ من المجد الذى يقف على تاريخ ثرىٍّ من التفرّد. فالمسرحُ مدرسةٌ نتعلّم فيها ما فاتنا أن ندركه على مقاعد التعلّم.
 
«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع