مدحت بشاي
" هلك شعبي من عدم المعرفة لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لى. ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضاً بنيك" هوشع 4 : 6 " ... إنها آية من آيات العهد القديم في الكتاب المقدس تحرض العباد على المعرفة ، بل وإعلان رفض قبول من يرفض المعرفة .. والمعرفة ضرورة ورد ذكرها كثيراً في أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد .. وفى مجتمعاتنا النامية التي يعيش فيها أغلبية من البشر المحدودي المعرفة ، بالإضافة لكونهم محدودي الإمكانات المادية والمهارية تصبح العلاقة بينهم وبين المؤسسات الدينية ورجالاتها ورموزها علاقة تبعية تصل للأسف إلى حد الانقياد الانسحاقي المتجرد من أي اجتهادات أو حتى مجرد التفكير وإثارة الحوار ....
لا شك أن زيادة مساحات انتشار حالة من التنافر والجفاء في شكل و آليات التواصل الإنساني بشكل عام بين البشر قد باتت مؤرقة ، بعد أن صار الناس مع كل طلعة شمس ، وكأن بينهم ماكينات عملاقة لا تتوقف عن انتاج جراثيم الكراهية المولدة لسلوكيات تتسم بالتعصب والتشدد ونبذ الآخر على كل المستويات الاجتماعية والتجمعات الإنسانية .. بداية بسلوكيات بعض من اعتلوا مدرجات الملاعب الرياضية ووصولًا لبعض أتباع الديانات والمذاهب على أبواب دور العبادة وشاشات قنواتهم وصحفهم الدينية ..
وهنا يمكن ، بل ويتحتم مطالبة كل وسائل الإعلام الالتزام بتقديم الحقائق بتدقيق ، وأن يكون ولاء الإعلامي وجهازه للمواطنين بالدرجة الأولى ، مستقلون عن الأشخاص والكيانات أصحاب المصالح الخبيثة والخائنة والعميلة ، والمساهمة في دعم حالة التوافق بين مكونات النسيج المجتمعي ، وأن يكون مايقدم في إطار النقد الموضوعي الحضاري ، والاعتماد على وثائق أصلية ، وضرورة الإشارة إلى ذلك فيما يتم نشره، و تغطية كل الجوانب المختلفة المتصلة بالقضية المطلوب تغطية الأحداث بها ، ومراعاة القيم النبيلة للمهنة بعدم استهداف تحقيق أي مكاسب أو امتيازات من جانب الطرف محل الحدث أو أصحاب القضية المراد تغطية كل جوانب الأحداث فيها..
ولعل التعصب الديني هو الأخطر في تداعياته لعلاقة ذلك الداء وتأثيره على ما يراه أطراف الصراعات الطائفية في منطقتنا بما ينفي تحقيق مبدأ حرية المعتقد ، و رغم جهود السيد الرئيس " السيسي " في هذا الإطار ومطالبته بلجاجة العمل على ضرورة إصلاح الخطاب الديني والثقاقي والإعلامي ، عبر توجيه رسائله لكل مؤسسات الدولة ــــ والدينية منها بشكل خاص ــ رغم تكريسها في جل الدساتير بينما هي لا زالت مجرد كلام تنظيري، باعتبار أن حسن تطبيقها يعتمد على الوعي الجماعي للمجتمع، بمعنى ممارسة حرية إعمال الضمير .
وهل من وقاية ومداواة للتعصب إلا بزيادة ودعم وتوفير المد الثقافي المستنير و الإضاءات المعرفية لعلنا نبلغ غاية الحق ؟
في المسيحية تقول لنا الآية : " وحيث روح الرب هناك حرية " ( 2 كو 3 : 17 ) ...ولعل من المناسب هنا الاقتراب من الإسهامات الرائعة في هذا الإطار للآب المفكر الفيلسوف " متى المسكين " .. يقول " إن المسئول الأول عن التعصب الديني هم القادة والمعلمون الذين لا يراعون المستوى النفسي للمتدين والذين يلقنونه الحقائق الإيمانية دون نقاش ، وهذه الصورة الصارمة في التعليم تظل هي رائدهم ومثلهم الأعلى مع أن المسيح لم يُعلّم هكذا ، بل كان يستخدم الحوار في تعليمه حتى مع أعدائه فكان يبني سامعيه ، ويفتح أمامهم آفاق المعرفة ، ويكشف لهم الحق المخفي وراء كل مثل أو تشبيه أو معجزة ...ولكن يلزم أن نعترف بالحقيقة المرة وهي أن معلمي الدين كثيرًا ما ينقصهم المعرفة والحق وبالتالي تنقصهم " حرية مجد أولاد الله " ( رو 8 : 21 ) ، لذلك يخرج تعليمهم أكثر شبهًا بتعليم الكتبة والفريسيين منه إلى المسيح ... " .
و عليه ، فإن هذا النوع من التعليم أي التلقين الإجباري بالفهم فقط لا يصلح للمسيحية إطلاقًا ، فسر المسيحية كله متوقف على مقدار استعلان الحق الإلهي في قلب الإنسان ، والحق يرشد الإنسان إلى السلوك وإلى العبادة والصلاة وكل عمل روحي آخر في حرية رزينة ناجحة ، دون أن تكون العبادة أو الصلاة أو أي عمل روحي آخر مُلزِمًا للإنسان بصورة فرض يعمله الإنسان مضطرًا أو مجبرًا ، المسيحية لا تعرف هذا النوع من العبادة .
ويضيف " المسكين " : " الإنسان في المسيحية فوق السبت وفوق كل طقس آخر كما يقول الكتاب " السبت إنما جُعل لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل السبت " ( مر 2 : 27 ) ... لكن ليس معنى هذا أنه يمكن للإنسان المسيحي أن يعيش بدون طقس أو ترتيب كنسي أو يخترع لنفسه طقوسًا أو ترتيبًا آخر ، كلا ، إن المعنى ينصب على كيفية أدائنا للعبادة والطقوس وكيفية سلوكنا في الحياة عمومًا ، فالمسيحي يعرف ما يعمله قبل أن يعمله ، والمعرفة الصحيحة تجعله يصل إلى الحق الإلهي ، والحق يجعل الإنسان يباشر أعماله الروحية دون أن يصير عبدًا لها ..."..
أخيرًا أود الاستشهاد بتلك الآية التي أراها أحد المحددات المهمة المرشدة للمواطن المسيحي " إن كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاس وَالْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ" .. الرسالة الأولى لأهل كورنثوس ١٣ : ١
إنه صوت النحاس الذي يطن فقط وصولاً إلى حالة فقدان التواصل بين الناس وتعاليم عقائدهم عندما لا تجيد المؤسسة الدينية في إيجاد صيغة مفعمة بالمحبة والصدق في مخاطبتها للناس على منابر الدعوة والإرشاد والوعظ ، بل وعبر كل آليات التواصل التي تتزايد وتستحدث كل يوم مع تسيد نظم العولمة والانتشار المعرفي ..
medhatbeshay9@gmail.com