الأقباط متحدون - ملاحظات ثقافية .. فيلم «الضيف» لإبراهيم عيسى
  • ٠٦:٣٧
  • الجمعة , ٢٢ فبراير ٢٠١٩
English version

ملاحظات ثقافية .. فيلم «الضيف» لإبراهيم عيسى

مقالات مختارة | جابر عصفور

٣٣: ٠٩ م +02:00 EET

الجمعة ٢٢ فبراير ٢٠١٩

فيلم «الضيف» لإبراهيم عيسى
فيلم «الضيف» لإبراهيم عيسى

جابر عصفور

 لا أزالُ أعتقدُ بصواب ما ذهب إليه مؤرخ التاريخ الاجتماعى للفنون والآداب أرنولد هاوزر صاحب كتاب: «التاريخ الاجتماعى للفن» الذى ترجمه المرحوم فؤاد زكريا بعنوان: «الفن والمجتمع عبر التاريخ»، عندما وصف القرن العشرين بأنه «عصر السينما»، وذلك فى تمييزه القرن العشرين، خصوصًا فى نصفه الثانى، بأنه القرن الذى شهد طفرةً كبيرةً فى الإنتاج السينمائى الذى أصبح يخاطب حتى الجماهير الأُميَّة بواسطة الشاشة الكبيرة، جنبًا إلى جنب الشاشة الصغيرة التى هى شاشة التليفزيون فى تقدمها الذى ربط بينها وبين الشاشة الأصغر للإنترنت، وذلك من حيث دائرة الخطاب الإبداعى ليصل إلى آفاق أوسع من الاستقبال، تشمل فيما تشمل - أولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، وهو الأمر الذى دفع فلاسفة ما بعد الحداثة إلى القول إننا نعيش «عصر الصورة» سواء أكانت الصورة السينمائية، أو الصورة الموجودة على شاشة التليفزيون، أو الصورة الموجودة على أجهزة الإنترنت التى أصبحت أداة بالغة الأهمية فى عصر التواصل الاجتماعى غير الحكومى والمُعارِض للأيديولويات الحكومية خصوصًا فى عوالم الاستبداد السياسى والتطرف الدينى على السواء.

 
وأعتقدُ أن الفيلم الأخير لإبراهيم عيسي: «الضيف» يتجاور مع فيلمه السابق: «مولانا» فى توصيل الرسالة الصادمة للمجتمع المقموع سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا على السواء. وفيلم إبراهيم عيسى يمكن وضعه فيما أُسمِّيه بــ «سينما المواقف». أعنى الأفلام التى تُسجِّل موقفًا لكاتبها الأصلى لما انتهى إليه مجتمعه من انحدارٍ نتيجة تحالف التطرف الدينى والحكم الاستبدادى على السواء. وقد سبق أن عبَّر إبراهيم عيسى عن موقفه الرافض ذلك فى روايته «مولانا» التى تحوَّلت إلى فيلمٍ سينمائى من إعداد وإخراج المخرج المُقتدر مجدى أحمد على الذى قام بتعديلات أساسية فى سياق الرواية الأصلية وفصولها وشخصياتها على السواء. أما هذه المرة فإبراهيم عيسى قد كتب سيناريو فيلم «الضيف» بنفسه، وذلك فى «سيناريو» بالغ الجرأة والجسارة لا يتردد خلاله فى نقد الجماعات الإسلامية السياسية، خصوصًا تلك الجماعات المُنتسبة إلى السلفية الوهابية التى تحوَّلت إلى جماعات إرهابية نتيجة تخاذل الدولة فى مواجهتها، فضلًا عن التحالف معها أو مُهادنتها منذ مطالع السبعينيات إلى أواخر عهد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك.
 
وكانت النتيجة أن قويت شوكة هذه الجماعات وفرضت حضورها الذى أسهم إسهامًا مأسويًّا فى تغييرِ وعى المجتمع المصرى، وتديين أفراده على نحوٍ أسهم فى تشويهِ صورة الإسلامِ فى مُمارسات شكلية أو مُعتقدات متطرفة أشاعتها جماعات الإسلام السياسى التى قامت بالإساءة إلى جوهر الدين الإسلامى السمح عبر ما يقرب من نصف قرن. وكانت النتيجة أن وقع المثقف المُستنير بين مطرقة الجماعات الإسلامية المُتطرفة وسندان الاستبداد السياسى للدولة التى تدينت لكى تصبح دولة للعلم والإيمان فأضاعت العلم وأحالت الإيمان إلى عبادات شكلية تهتم بمظهر الدين لا جوهره، بعيدة كل البُعد عن العقلانية الإسلامية الحقيقية التى ظل المفكرون المستنيرون من أمثال بطل الفيلم مُتمسكين بها، مُدافعين عن إسلامهم العقلانى ونقاء جوهره، فى مقابل التشويه السلفى الوهابى الذى بدأ مع تحالف السادات مع الإخوان وانتهى بالتحالف الإخوانى السلفى الذى حدث مع سيطرة جماعة الإخوان على الحُكم بعد أن سرقوا انتفاضة الشعب فى الخامس والعشرين من يناير 2011.
 
ولذلك ينقسم فيلم «الضيف» إلى قسمينِ من حيث الترتيب الزمنى، أولهما: القسم الأول الخارجى الذى جرت أحداثه خارج منزل البطل الذى يتحرك من منزله إلى المحكمة حيث يعرف الحُكم عليه بعام من الحبس أو السجن جزاء جريمة ازدراء الدين الإسلامى، وهى تُهمة هو برىء منها لأنه ما شرع قلمه إلا من أجل إضاءة جوهر الإسلام النقى، بعيدًا عن الشوائب والغرائب وأشكال التطرف التى ألصقها به دُعاة الإسلام السياسى، خصوصًا من أعلام السلفيةِ الوهابية التى لم تتردد فى اتهام أى شخص أو جماعة مُخالفة لها بتهمة التكفير، وهى التُّهمة التى انهالت على رأس المُثقفين المستنيرين فى مصر فى الفترة التى امتدت من السبعينيات إلى يومنا هذا، والتى غلب فيها التديين السطحى على التدين العميق.
 
وكما غرقت مصر فى سلفية وهابية إخوانية المظهر، تسلَّفت أجهزة الدولة التى تركت المواطنين البُسطاء ينخدعون بشكليات تدين حنبلى وهابى، كان ولا يزال بمثابة إعادة لعقارب الزمن، والرجوع بإسلام أمثال الإمام محمد عبده إلى عصور الإسلام الذى سجنه ابن تيمية وأتباعه فى سجون التعصب والعداء لكل أحرار العقل أو غير المسلمين فى الوطن الواحد. ورغم كل شعارات ثورة 1919 التى تؤكد أن «الدين لله والوطن للجميع»، ارتدت السبعينيات الساداتية إلى ما قبل ثورة 1919 من تديينٍ للدولة وترييفٍ للمدينة التى انحدرت إلى أخلاق القرية. هكذا نرى بطل الفيلم فى المرة الأولى مُنتظرًا الجلسة الأولى لاتهامه بازدراء الأديان. وللأسف يعرف الحُكم عليه بالسجن مدة عام، ومن ثم يقرر مع محاميه الاستعداد لاستئناف هذا الحُكم وَردِّه.
 
وعندما يعود إلى منزله يستعد دون أن يدرى للمأساة التى يبدو أنه لم يكن يتوقعها على الإطلاق، وهى حضور «ضيف» لم يكن يعرفه، ولكنه أخذ يستعد لاستقباله متوهِّمًا أن هذا «الضيف» قد دعته ابنته ليتعرف عليه، هو وأمها، فيما يُشبه الخِطبة. ويحكى الفيلم الأحداث التى تقع للبطل «يحيى التيجانى» (المُعادل الفنى لشخصية إبراهيم عيسى) وزوجه المسيحية وابنته فضلًا عن الضيف (أو الخطيب) الذى يأتى بدعوى خطبتها من أسرتها التى يمثلها الأب يحيى التيجانى (خالد الصاوى) والأم مارلين أو ميمى (شيرين رضا) والابنة فريدة (جميلة عوض) التى يتقدم لخطبتها أسامة (أحمد مالك) الباحث الشاب الذى يحمل درجة الدكتوراة فى الهندسة من جامعة هارڤارد. لكن سرعان ما تتكشف الأحداث عن أن الخطيب هو شخص ينتسب إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة التى تُكلِّفه باغتيال الأب يحيى التيجانى (خالد الصاوى)، وتسجيل اعترافٍ له بتبرئه من كل ما كَتَب ضد جماعات الإسلام السياسى المُتطرف أو المتبنِّى مبادئ السلفية الوهابية تحديدًا.
 
وينجح الخطيب المزعوم بالفعل فى اقتحام المنزل الذى يعيش فيه الدكتور يحيى التيجانى ويُجبر الضحية على الإذعان لرغبته، ويعترف أمام آلة التسجيلِ الصغيرة المُصوِّرة بتبرئه من كل ما كَتَب فى نوعٍ من الخوف على زوجِهِ وابنتِهِ التى تكتشف حقيقة الخطيب المزعوم عندما يكشف عن وجهه الإرهابى، وينتهى الأمر بكارثةٍ كادت أن تؤدى بهذه الأسرة إلى الدمار بسبب انحيازات الأب «يحيى التيجانى» التنويرية ومهاجمته مبادئ الجماعات السلفية الوهابية الإرهابية، خصوصًا بعد أن يدور حوار قمعى بين الضحية الأصلى وهو «يحيى التيجانى» الذى قام بأداء دوره خالد الصاوى فى براعةٍ مُتقنةٍ كعادته فى فهم طبيعة الدور وتقمُّصه لإبراهيم عيسى شكلًا ومضمونًا على نحو غاية فى البراعة حتى فيما لا يعرفه خالد الصاوى نفسه، مثلًا، فالبطل الأصلى وهو إبراهيم عيسى مُنغمِس كل الانغماس فى حب كرة القدم وعلى معرفة بدهاليزها وأسرارها، وهى معرفة لا يتميز بها على الإطلاق خالد الصاوى الذى نُصدِّقه نحن المشاهدين عندما يتساءل فى تعجبٍ: «هل هناك أحد لا يُحب الكرة؟!» وعندئذ، ندخل إلى القسم الثانى والرئيسى من الفيلم، حيث يدور السِّجال بين أنصار التنوير وأنصار الإظلام، ويتحول السرد السينمائى إلى فيلمٍ حوارى ينبنى بالدرجة الأولى على حوارٍ مُحتدِمٍ بين الخطيب المزعوم الذى سرعان ما نعرف أنه إرهابى مَبعوثٌ من جماعةٍ سلفيةٍ وهابيةٍ لاغتيال الأب «يحيى التيجانى»، ولذلك يتحول أغلب الفيلم كله إلى حوار فى مكانٍ محدود، لا يتجاوز المسافة بين قاعة الاستقبال وغُرفة الطعام ومكتب «يحيى التيجانى» الذى تصل فيه حدة الصدام السياسى إلى مُنتهاها أو إلى ذُروة المأساة عندما يطلب الإرهابى من المُفكر المُعادِى لهذا التيار أن يقتل نفسه بالمسدس الذى قدَّمه إليه الإرهابى أو يغتال ابنته التى خدعها بحبه المزعوم لها لكى يصل إلى أبيها المجرم فى نظر جماعته الدينية التى أمرته باغتياله. وينتهى هذا الحوار الدامى بقتل الإرهابى.
 
ولا تنقطع الحوارية التى يقوم عليها الفيلم إلا مرتين عندما يأتى زائران يقطعانِ احتمال رتابة السرد السينمائى فى مدى الحوار بين الضيف الإرهابى والدكتور يحيى التيجانى؛ أولهما: «هانى» (ماجد الكدوانى) شقيق الزوجة المسيحى، الذى يأتى لزيارتهم وسرعان ما يُغادر المنزل بعد أن يُحذِّر تحذيرًا مُضمرًا صديقه «يحيى التيجانى» من هذا الخطيب المزعوم. وثانيهما: «محمد ممدوح» الذى أدى دور عميد الشرطة الذى جاء ليطمئن على حراسة المنزل بواسطة رجال الشرطة المُكلفين بحراسة الكاتب «يحيى التيجانى» الذى تضيق وزارة الداخلية بحدة كتاباته التى تهاجم سياساتها فى الوقت الذى تهاجم فيه تشدد المُتعصبين الدينيين.
 
والمؤكد أن هناك نوعًا من التناص entertaxteuality بين أحداث هذا الفيلم والفيلم الأمريكى الشهير الذى أخرجه ستانلى كريمر: (Guess Whos Coming to Dinner) «خمِّن من سيأتى للعشاء»، وهو ما يشير إليه سيناريو الفيلم الذى يقوم على مهاجمة التمييز العِرقى بين «الضيف» الأسود الذى يقابل عائلة بيضاء مُتعصبة، و«الضيف» الذى يقوم به دكتور جامعى شاب نابغ فى قناعٍ ينطوى على نقض التمييز «الأبيض» العنصرى الحاد الذى يضع الأبيض فى مواجهة الأسود، فى مقابل التمييز الآخر فى فيلم «الضيف» الذى يضع المُسلم الصدامى المُنغلِق فى مقابل المُسلم التنويرى الذى يؤمن بالمجتمع المدنى الديمقراطى، ولكن الفارق بين الفيلمينِ كبير، فالتضاد الثنائى فى الفيلم الأمريكى ينحل بنوعٍ من المُصالحة، بإمكان التجاور بين الأسود والأبيض فى وطنٍ قادر على ضمِّهما معًا فى بنيةِ دولةٍ ديمقراطيةٍ تعترف بالمساواة الكاملة بين المواطنين، بينما لا تنحل الثنائية الضدية فى فيلم إبراهيم عيسى، بل تنتهى بمأساة تودِى بحياة أحد الطرفين على الأقل، فلا حياة للإرهاب الدينى مع نقيضه الذى يرفع شعار التسامح والحياة المُشتركة بين الأديان والطوائف.
 
أعنى تلك الحياة التى تبنى مجتمعًا ديموقراطيًّا مدنيًّا، لا يعترف به السَّلَفى الجامد على أفكار ابن تيمية وابن عُثيمين الأكثر عداء وجمودًا فى مواجهة دعاوى الدولة المدنية الكافرة من وجهة نظره. والحق أن التعقيدَ والكثافة الحوارية يكشفان معًا التضاد الهائل بين المُفكر المدنى الديموقراطى الذى يقع بين شِقى الرَّحى. ولذلك يبدأ الفيلم بِمشاهد عن مُحاكمة يحيى التيجانى غيابيًّا، فيُحكم عليه حُكمًا ابتدائيًّا بالحبس لمدة عام، عقابًا على دعوى مرفوعةٍ عليه تتهمه بازدراء الأديان، فى مقابل جماعات دينية مُتطرفة لا تتردد فى الحَجر على قلمه وتضييق حريةِ الإبداع والكتابة الحُرة التى لا يتخلى عنها الكاتب يحيى التيجانى.
 
والحق أن هذا التناص الذى يجمع بين فيلمى «الضيف» و «خمِّن من سيأتى للعشاء»، هو البنية التى تقوم على ثنائية ضدية فى حوارية إبراهيم عيسى التى كتبها هو بقلمه الجذرى (الراديكالى) ثنائية تضع الأطراف فى تقابلات دالةٍ، فهناك الثنائية الضدية الأولى التى تواجه ما بين الكاتب يحيى التيجانى من ناحية، والخطيب المزعوم أسامة (أحمد مالك) من ناحيةٍ مُضادة، وذلك إزاء ثنائية مقابلة تقع بين الثنائية التى تصل بقدر ما تفصل بين الزوجة المسيحية وابنتها الجامعية من ناحيةٍ ثانية، فالأولى مسيحية لم تفارق آراءها الجذرية التى تؤمن بالمعنى الخلاق للمواطنة من ناحيةِ والمعنى الأصيل للمساواةِ وعدم التمييز بين أبناء الوطن الواحد، فـ «الدين لله والوطن للجميع» من ناحية ثانية، فلا تتخلى الأم عن ديانتها ومعنى مواطنتها على السواء، بينما الابنة المسلمة تخجل من ديانة أمها فلا تُخبر خطيبها المزعوم بذلك حتى لا ينفر منها. والمستوى الثانى لهذه الثنائية الضدية هو ما يقع بين الأب وابنته التى لا تمضى تمامًا مع عقائد الأب، فسرعان ما تتخلى عن الحرية التى أعطاها إياها فى مقابل إلغاء العقل وصعوبة مسئولية الاختيار التى يريحها منها الخطيب المزعوم، فينوب عنها فى حرية قرارها. أعنى هذه الحرية التى تُحمِّلها عبء مسئولية اتخاذ القرارات الصعبة فى الحياة، فيتولى عنها الخطيب المزعوم عبء هذه الحرية ويقنعها بما يحدد لها حياتها بعد الزواج، ويختار لها ارتداء الحجاب بعد إعلان الخطبة، وتتقبل هى ذلك راضية تحت زعم ما تقوله لأمها مُبرِّرة اتخاذ قرار يتناقض كل التناقض مع كل ما تربَّت عليه من مبادئ فى أسرة مُستنيرة لا تعرف فى الوطنية مبدأ أهم وأقدس من مبدأ المواطنة بعيدًا عن معنى التعصب أو معنى التمييز العِرقى أو الدينى.
 
وهناك أخيرًا الثنائية الضدية التى تتقابل بها مرحلتان من مراحل حياة الكاتب يحيى التيجانى وصديقه القديم «وجدى عبدالصمد» الذى ضَمَّه إلى جماعةٍ دينيةٍ فى بداية حياته التى سرعان ما اكتشف يحيى التيجانى أنها جماعة ضيقة الأفق، إرهابية المنزع الدينى الذى يُفضى بها إلى عنف التمييز الدينى والوطنى على السواء. فيتركها مُختارًا.. أفكار التنوير ومواجهة الإرهاب الذى يؤدى بصاحبه القديم إلى السجن ثم الإعدام، وهو مبدأ المُحاكمة التى ينطلق منها الخطيب المزعوم (أحمد مالك) للأب يحيى التيجانى (إبراهيم عيسى). وهناك الحيل الفنية التى تأخذ شكل المُفارقات التى تُضيف إلى حيوية الحوارية التى ينبنى عليها الفيلم فى هيئة القطع الذى يحول دون رتابة الحوار المُغلق بين طرفين (الإرهابى المُتنكر فى هيئة الخطيب) فى مقابل (المُفكر الذى لا يتخلى عن أفكاره التنويرية)، فيضع نفسه بين سندان تضييق الحريات الفكرية بقوانين مدنية، ومطرقة جماعات الإرهاب الدينى التى تهدد حياته. وهناك أخيرًا دلالة التضاد بين الوعى العام والوعى الخاص، وهو تضادٌ يشمل تساؤل الحُرّاس عما يرونه من تدين المُفكر يحيى التيجانى الذى يَؤمُّهم للصلاة وموقف الدولة منه، فضلًا عن جماعات السلفية الوهابية منه أيضا، وهو تضادٌ يشترك فيه الحُرّاس مع الطبّاخة التى تُصدق أن يحيى التيجانى يخالف القرآن بِتعرُّضِهِ لنقد كتاب البُخارى الذى أصبح فى منزلةِ القرآن. وهو تضاد يكشف بدوره - عن حدةِ التناقض بين وعى المُثقفين المُستنيرين المعزولين عن بقية أبناء الشعب الذى أغرقته أجهزة الدولة الأيديولوية منذ السبعينيات فى أفكار سطحية عن الدين لا محل لها من الإعراب. وهو وضع مأساوى يكشف عن وقوع المُثقف بين مطرقةِ الإرهاب الدينى الذى أصبح مُسيطرًا على الوعى العام وسِندان الدولة التَّسلُّطية التى فتحت المجال أمام عملية التديين التى شملت أجهزتها المختلفة، كما شملت المواطنين فى الوقت نفسه.
 
وهو وضع ينطوى على المُفارقة التى تنبنى على السخرية من دولة مدنية تسمح بسجن مُثقفيها على أساس من حِسبة دينية، لا علاقة لها بطبيعة الدولة المدنية على الإطلاق. ويأتى بعد ذلك التضمين الذى يصل بين رمزية ترتيل أم كلثوم للقرآن والترانيم الكنسية لفيروز، وهو أمر يبعث على الشعور بالقداسة فى الحالين، كما يؤكد الوحدة الدينية التى تربط بين المسلم والمسيحى على السواء. ولا يخرج الأمر فى هذا السياق من السخرية بالدُّعاة الجُدد الذين دخلوا مجال الدعوة بأزياء حديثة على أحدث طراز، لكن فكرهم يظل مُحافظًا على أقدم الأفكار وأكثرها جمودًا. وأخيرًا هناك الرمزية الشاملة التى تضع مرض السرطان الذى تُصاب به الزوجة «مارلين» موضع السرطان الأكبر الذى أُصيب به الوطن الذى لا يزال يُعانى مما يُهدد جسد وحدته واحتمالات تقدُّمه على السواء.
 
والحق أن إبراهيم عيسى قد نجح مع المخرج هادى الباجورى فى صناعة فيلم تنويرى بكل معنى الكلمة، مؤديًّا رسالته التى أراد لها السيناريو والإخراج معًا أن تصل إلى كل مُشاهد وأن تصدمه بالواقع الذى يعيش فيه، فتدفعه إلى إعادة التأمل فى هذا الواقع بفعل الصدمة التى يُفاجِئه بها هذا الفيلم. وظنِّى أن هادى الباجورى فى الإخراج لم يكن أقل توفيقًا من إبراهيم عيسى فى الكتابة، فالفيلم على نحو ما شاهدتُه، لا يُعانى من بطء الإيقاع ولا من توابل التشويق، ولا يعانى المُشاهِد من الملل الحوارِى، فهناك الانتقال بين المشاهد الخارجية أمام المَحكمة، والمشاهد الداخلية المُفعمة بالتوتر السِّجالى. وهناك الحوار الطويل الذى يقطع تدفقه تدخُّلات مُفاجِئة بين ضيفى الشرف ماجد الكدوانى ومحمد ممدوح. وأخيرًا هناك تضافر الأدوات الفنية الأخرى التى أخرجت لنا فيلمًا ناجحًا من أفلام الاستنارة الجريئة التى تفتح الجرح وتخرج صديده كى تُطهِّره حتى لو تألَّم صاحب الجرح، فالألم كالصدمة التى يُخلِّفها هذا الفيلم فى مُشاهِده كى يُعيد النظر فى كل شيء حوله، وينحاز- دون أن يعِي- إلى ما فيه مصلحة الوطنِ وما يُحققُ مُستقبله الواعد بكل معنى الكلمة. وتحية لكل من أسهم فى صناعة هذا الفيلم وسمح بعرضه على السواء.
نقلا عن الأهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع