هؤلاء علموني ..
محمد حسين يونس
الجمعة ١ فبراير ٢٠١٩
محمد حسين يونس
من حظي أنني قرأت لسلامة موسي مبكرا .. واحد من كتبه العديدة كان بعنوان ((هؤلاء علموني )) .. ذكر فية مجموعة من الفلاسفة و العلماء و الفنانين العظام .. الذين أصبحوا بعد ذلك أساتذتي أيضا .
الأن وأنا أقترب من الثمانين .. أنظر خلفي فأجد أن هناك من علموني .. علي مستوى الحياة و مستوى الفكر و المستوى المهني ...هؤلاء .. بغض النظر عن أن مدرسات و مدرسين أو أساتذة بذلوا جهدا معي و مع زملائي في المدرسة و الجامعة.. و كان لهم فضلا عظيما .. إلا أن اغلب من تعلمت منهم بعمق .. كنت أعمل معهم .. و أصروا علي إعادة تشكيل رأسي .. و ضبط سلوكي .. و إرشادى و تدريبي .
بالمدرسة أو الجامعة أذكر مجتمعا ..إنصهرت داخلة .. و تشكلت علاقتي بالعالم من خلاله .. مجتمع يشمل الزملاء و الأساتذة .. و المشرفين .. و الفراشين .. .. يشمل حجرات الدراسة و الملاعب و المطاعم .. و الكانتين و الرحلات.. والتنافس ..والإنتماء .. و المظاهرات ..و الطوابير.. و تحية العلم ..عالم كامل مواز للبيت و الشارع و الجيران ..
مدرسين هذه المرحلة .. لا أذكرهم بالإسم و لكن بالسلوك .. و بالإرشاد .. و بالمواقف .. أما الزملاء فيكاد أن يختفي وجودهم الجسدى من ذاكرتي .. و لكن أعرف جيدا الأنشطة التي زاولناها معا .
الاساتذة الذين أذكر فضلهم في تعليمي .. تعرفت عليهم من خلال مسار عمل طويل .. بدأ .. بعد تخرجي من الجامعة . و مستمر حتي اليوم .
أول هؤلاء الأساتذة كان الدكتور مهندس ميلاد حنا .. لقد درس لي بالكلية .. و إنضممت لأسرة تحمل إسمة أثناء الدراسة .. و إستمرت علاقتي به بعد التخرج .. كنت أزوره بمكتبه أمام حديقة الأزبكية .. و كان يمنحني وقتا كافيا ليناقش معي أمور حياتي المهنية .. و يقدم لي النصائح .. و يفسر لي الغامض .. و لم تتوقف علاقتي بسيادته .. حتي بعد أن أغلق مكتبة فكنت أزوره في منزله بالمهندسين .. أهدية كتبي .. و يهديني كتبه .. نتناقش .. كزميلين . . ناضجين .
الدكتور ميلاد كان يقترب من اليسار .. (الإشتراكية الفابية ) .. التي كانت منتشرة في إنجلترا أثناء دراسته هناك .. و التي لا تصطدم بالسلطة .. و لكنها تكسب منها حقوقا .. بمعارك صغيرة سياسية .
و كان هذا السلوك ينعكس علي أغلب تصرفاته .. حتي في أحلك الظروف كان بإستطاعته أن يجد حلولا ..عملية .. تسمح بالتطور .. و لا تنتهي بالصدام .
لذلك لم أعجب عندما عرفت أنه كان عضوا بالتنظيم الطليعي السرى لعبد الناصر .. أو عندما رشح نفسة في نقابة المهندسين .. عن الشعبة المدنية .. أو تم تعينة في مجلس الشعب رئيسا للجنة الإسكان .
كان يتكلم عن الخلطة العبقرية للشعب المصرى التي تضم مراحل تطور تاريخهم فتجعل منهم مصريون (فراعنة ) لهم ملامح الجريكو رومان وحضارة البحر الأبيض ) .. و مسيحون قبط و مسلمين سنة و شيعة ..و في نفس الوقت...اوربي المزاج... إقراءوا كتابة ((الأعمدة السبعة للشخصية المصرية)).
أستاذى الثاني و الذى أدين له بفضل تعليمي و تدريبي .. كان أول قائدا لي في سلاح المهندسين .. المقدم المهندس ( وصل للواء ) فؤاد سلطان .. لقد كان يساريا أيضا .. علي هامش الطليعة الوفدية ..و التي كانت تمثل الروح الجديدة للوفد .. بعد أن إحتل مراكز القيادة فية الأغنياء ..
لقد كانت كتيبتي تعمل في صحراء سيناء حول جبل (لبني ) أو كما كنا نسمي المكان (الكيلو 161 ) ..و كنا نعيش هناك 21 يوم متصلة و أجازة 7 أيام .. لذلك كان لدينا الفرصة للمعايشة و التعلم و التدريب .
المقدم فؤاد .. كان مهتما بالجنود و الضباط فيقول (( لن يحميك سلاحك في المعركة .. من يحميك هم جنودك .. الصف و العساكر .. فالجهد المبذول لتعليمهم و تدريبهم سيعود عليك أمنا )) (( علي الجندى أن يحبك و يحترمك و يخاف منك )) نقص أى جزء من هذه النصيحة قد يؤدى لفشل العلاقة .
.. إهتم بأكل الجندى و المكان الذى ينام فيه .. و راقب حالته النفسية .. و إرفع من روحة المعنوية .. و تفهم وضعة الإجتماعي و مشاكلة .. و عندما تقدم له النصيحة .. لا تكذب و لا تجمل .. الحقيقة خير وسيلة للإقناع .
عملت مع المقدم فؤاد في سيناء و اليمن .. و دهشور و هاكيستب .. و لم تنقطع علاقاتنا .. حتي بعد أن كان لكل منا مسارة .. فقد كنت أزوره في بيت والدته بشارع رمسيس .. أو في منزله بالزمالك .. نتناقش لساعات .. يفسر لي ما لم أكن أفهمة .. في السياسة .. و كان عادة ما يدهشني بإقترابة خارج الصندوق فهو لم يردد أبدا ما كانت تقولة أجهزة البث و الدعاية .
لم نختلف إلي درجة القطيعة إلا مرة واحدة .. لقد كنت عائدا .. من الاجازة بواسطة قطار العريش .. عندما سمعت أحدهم يتكلم مع شباب الضباط .. بأن النساء نوع من البشر لا يستقيم إلا بالعنف و الضرب .. فتدخلت معارضا إياة .. و دار بيننا حوارا حادا .. إنتهي بأن إتهمني بأنني شيوعي .. أنشر فكرا هداما .. ثم عندما وصلنا للعريش أسر بهذا الإتهام لرئيس عمليات الكتيبة الذى نقله للمقدم فؤاد .. فإستدعاني ليوبخني علي أنني لم أحفظ لساني .. و جعلت شخصا مثل هذا ينشر إشاعة بأن كتيبة المهندسين فيها ضابطا شيوعيا .. و أن هذا الشخص له سوابق كثيرة في اليمن و تسبب في إيذاء العديد من الضباط .
الحل .. أن أرسلني بعيدا عن الكتيبة في أبو عجيلة في مأمورية بناء تحصينات هناك .. ثم في دورة تدريبية بإدارة التوجيه المعنوى بالقاهرة لمدة ثلاثة أشهر ..
في هذه الدورة كان ترتيبي من الأوائل بحيث تم التوصية بأنني أصلح ضابط توجية معنوى علي مستوى الفرقة .
و لكن المقدم رفض أن أتولي هذه المهمة في كتيبته .. حتي حضرت لجنة للتفتيش علي هذا النشاط فوجدت الضابط المكلف بالعمل يقرأ من الكتاب ثم و هو يقلب الصفحات قلب صفحتين و مع ذلك لم يتنبه للخطأ و إستمر في القراءة .
قائد الفرقة أرسل خطابا للكتيبة .. بأن أتولي هذا العمل .. هنا إستدعاني .. و قال لي .. أنا مرتبي كذا و أسكن في الزمالك و لي أسرة تعيش بصورة جيدة .. و مش مستعد أن أفقد كل هذا بسبب شخص مثلك مش عارف يمسك لسانه .. لذلك سأأخذ هذا الخطاب و أضعه في خزينة بيتي .. علشان لما تعمل مصيبة .. و يحاسبوني أأقول ده أمر من قائد الفرقة .
عندما كنا في اليمن .. و أخذنا أول دفعة ريالات .. نزلنا للسوق نشترى بضائع من الحديدة .. بعد أن عدت .. وجدت المقدم جالسا علي الشاطيء أمام خيمته .. نادانى .. عندما عرف أنني كنت في السوق سألني إشتريت إيه .. قلت و لاعة رونسون و نظارة بيرسول .. تغير وجهه .. ثم قال بجدية .. إحنا إتربينا في ظل الإستعمار .. و إضربنا بالكرباج .. لذلك بنعوض اللي فات .. لكن إنتم إيه عذركم .. لقد كان لدى أمل في جيلكم .. لكن واضح إن مفيش إختلاف .. با باشمهندس كل المصايب بتبتدى بتطلعات تستدعي تنازلات صغيرة .. البوتجاز ابو عنتين ليه ميكبرش و الشقة تبقي فيلا .. و العربية ال128 تبقي مرسيدس .. و لا تتوقف التطلعات حتي تبيع روحك و فكرك و سلوكك ..
عندما لاحظ ملامح الرعب علي وجهي .. ضحك .. و أخدني لخيمته ليفرجني علي ما إشتراه من بضائع . ( إلي غد أكمل الحديث معكم عن الذين علموني ) .