الزعفرانه - ٤
عبد المنعم بدوي
السبت ٢٦ يناير ٢٠١٩
عبد المنعم بدوى
فى ٢١ يناير ١٩٧٠
انحنى امام فتحة الملجأ ، لأخذ من برميل المياه كوز املأ به كفى ، وأمسح به وجهى ورقبتى ، ثم أخذ كوز أخر أملأ به غلايه الشاى ..... سيكون الشاى المر افطارى ... جسدى العارى الصدر تدغده نسمات الصباح القادمه عبر السهول الجافه ، والسهول المزهره .
فى تلك اللحظات البالغه القصر ، بين الصبح والفجر ، بين الذهبى والفضى ، ابدأ طقوس مهامى اليوميه .... بالمرور على دشم المدفعيه ، وتفقد عربات الحمله ، والتأكد من وصول طعام الفطور الى الجنود ، وسلامة اجهزة الاشاره والاتصالات اللاسلكيه .... ثم انتظار وصول طائرات العدو للاغاره على الموقع ...
كأننى ذلك الاغريقى القديم ، الذى يزحف بصخرته صاعدا القمه المستحيله ، فما يكاد يعلوها حتى تسقط الصخره ...... فيعاود الهبوط ليصعد بالصخره من جديد .... سأظل كذلك حتى تختفى الشمس فى الغرب تماما ، ويزحف اللون الاسود على اصفر الصحراء ، ليكسوها بلونه ، ويتحول الحر الى نسيم ثم الى برد، وتصبح الجبال اشباح خرافيه فى ذلك المدى اللانهائى .
هاذين الجبلين ، جبل الجلاله البحرى وجبل الجلاله القبلى ، كم تمنيت لو اتيح لى الطيران والتحليق فوق قمتيهما ، لمشاهدة قممهما الصخريه ، هذان الجبلين الجبارين الرهيبين ... لابد وانهما قد هويا من السماء فى زمن ما ، وجثما على الارض يحتضنان بزراعيهما وادى غير ذى زرع .
فى هذا اليوم ابلغنى قائد الكتيبه بالتحرك الى مدينة الغردقه حيث مقر قيادة منطقة البحر الاحمر العسكريه ، للحصول من المنطقه على مهمات عسكريه من وقود وملابس ، وشباك تمويه ، وبطاريات لأجهزة الاشاره واللاسلكى .
مدينة الغردقه : يوم ٢٢ يناير ١٩٧٠ / معركة جزيرة شدوان
كان اللواء سعد الشاذلى فى الفتره من ١٩٦٨ - ١٩٦٩ قائد للقوات الخاصه ( قوات الصاعقه و قوات المظلات ) وفى عام ١٩٧٠ عين قائد لمنطقة البحر الاحمر العسكريه .
وصلت الى مدينة الغردقه فى هذا اليوم ٢٢ يناير ١٩٧٠ ، وكان النهار على وشك الطلوع .... والسماء مشرقه ، وثمة رياح جنوبيه خفيفه ، ورذاذ امواج البحر يدخل من نافذة السياره ، توجهت الى ادارة المهمات بالمنطقه لتقديم طلبات الكتيبه ، كان من المتعارف عليه هو تخفيض الكميات المطلوبه الى النصف من قبل المسئولين بحجه محدودية الكميات المتوافره لديهم ولاتاحه الفرصه لباقى الوحدات .
واثناء مجادلتى للضابط المسئول على الكميات التى قرر صرفها لنا ، لمحت سياره جيب مخصصه لكبار الرتب ( اربعه باب ) ، بداخلها ضابط برتبة رائد ... هذا الضابط هو صديق عمرى عائلتى وعائلته اصدقاء وتزاملنا فى جميع مراحل الدراسه حتى مرحلة الثانويه العامه حيث التحق بالكليه الحربيه ، ثم بسلاح الصاعقه .... ناديت عليه .... تفاجأ بوجودى ، صحبنى معه بسيارته الى قيادة المنطقه العسكريه حيث كان يعمل السكرتير العسكرى لقائد المنطقه اللواء سعد الشاذلى .
دخلنا منطقة القياده فى الدهار بالغردقه ، تتكون من مجموعه من الملاجئ المحصنه تحصينا قويا تحت الارض ، مموه جيدا ومخفيه تماما عن نظر العدو ، سألنى عن سبب تواجدى شرحت له الاسباب وشكوت له من تصرف الضابط الذى قام بتخفيض الكميات المطلوبه ..... قام فورا بالاتصال بذلك الضابط وأمره بتسليم الكميات التى طلبناها كاملة دون اى نقصان .
قدم لى كوب من الكاركاديه لونه احمر قانى ، مثلج ، مشبر ، لم اكن تناولته طوال خدمتى العسكريه ، واستأذن فى تركى دقائق معدوده ، حتى افرغ من تناول الكاركاديه ، يقوم خلالها بمراجعة الخطبه التى اعدوها للواء الشاذلى لالقاءها على الجنود والضباط بعد صلاة الجمعه .
نظرت الى كبايه الكركاديه بشوق ومددت يدى لتناولها .... إذا بصياح شديد ودخل على اللواء سعد الشاذلى...... مضطربا..... متوترا ......صائحا..... " انت مين ... بتعمل ايه عندك..... ، شوفلى على بسرعه...." ( يقصد سكرتيره العسكرى ) ، ودخل الغرفه المقابله يتبعه عدد كبير من الضباط ذو الرتب المختلفه ، ومعهم خرائط العمليات التى تم فردها على طاوله كبيره بالغرفه ، صائحا فيهم .." هاتولى كل القاده على التليفون ( قادة القاعده البحريه بالغردقه ، وقوات الصاعقه بالغردقه، والقوات الجويه بالقاهره ، وقوات الدفاع الجوى بالغردقه، وقوات المشاه بالغردقه ) ......... علمت ان القوات الاسرائيليه قد قامت بانزال كتيبه كامله من المظليين على جزيرة شدوان وقامت بأحتلال جزء منها .
جزيرة شدوان تقع فى مدخل خليج السويس تبعد عن مدينة الغردقه ٣٥ كيلو متر ، جزيره صخريه مساحتها ٧٠ كيلو متر مربع ، عليها فنار لارشاد السفن ، ورادار تكتيكى صغير ، ووحده من خفر السواحل ...... قامت اسرائيل كما ذكرت بالاستيلاء على تلك الجزيره ، كما قامت بعمل مظله جويه من الطائرات المقاتله طراز فانتوم وسكاى هوك بغرض تامين قواتها على تلك الجزيره من اى هجوم مضاد مصرى لاستعادتها .
كان على الانصراف فورا والعوده الى سيارات كتيبتى ، وجدتهم قد فرغوا من تحميل الطلبات ، وعلينا العوده الى الزعفرانه ........ لكن العوده تتطلب احتياطات اخرى حيث الطيران الاسرائيلى فى سماء المنطقه وكذلك قواتها مستنفره استعدادا لاى تحرك من قواتنا ، طريق العوده طويل طوله حوالى ٣٠٠ كيلو يستغرق مننا حوالى ٦ ساعات ، غير مأهول تماما ، مكشوف ، ومعرضين للوقوع فى اى كمين للقوات الاسرائيليه ، او هجوم الطيران .... اتخذنا تشكيل القتال وتوزيع خدمات المراقبه والحراسه طول الطريق .
فى ظل هذا القلق والتوتر العصبى الشديد ، وقبل الوصول الى رأس غارب ، صاح الجندى المكلف بالمراقبه ........... يافندم طيارتين اسرائيلى ورا بعض بيهجموا علينا .!!!!!!!!
ملحوظه :
بعد مرور حوالى ٣٢ عاما على هذه الواقعه .... فى عام ٢٠٠٢ حدث وان دعى اللواء تحسين شنن رئيس نادى المعادى ، الفريق اول سعد الشاذلى لألقاء محاضره عن الثغره والعبور بمناسبة الاحتفال بحرب اكتوبر ..... حرصت من جانبى على حضور تلك الندوه وكان عدد الحضور كبير جدا ...... بعد الانتهاء .... ذهبت الى الفريق الشاذلى وذكرته بالوقائع التى اشرت اليها عاليه ......اندهش كثيرا وقال لى بالحرف الواحد ..." انت فكرتنى بحاجات كانت رايحه عن بالى ، واخذنى بالاحضان ، واعطانى رقم تليفونه الخاص لمداومة الاتصال به ... ثم سألنى كان إيه رأيك فى تلك الايام ... رديت كانت احلى ايام ،،،، وعقبت " بس انت مديون ليه بكباية كركاديه مثلجه مشبره سبتها على مكتبك ماشربتش منها بق واحد ......."