فى مثل هذا اليوم.. محاولة الاخوان تفجير محكمة مصر..بباب الخلق
سامح جميل
الأحد ١٣ يناير ٢٠١٩
حتى لاننسى..
فى مثل هذا اليوم 13 يناير 1949م..
نحن الآن فى الساعة الثامنة «أفرنجى» من صباح يوم الخميس الموافق الثالث عشر من يناير عام 1949 ميلادية، وعادة يكون الجو فى هذا الوقت شديد البرودة، ولكن الأحداث التى مرت بمصر فى تلك الآونة جعلت الناس لا يشعرون ببرودة ولا يهتمون بمطر، ورغم أن السماء فى الليلة السابقة كانت قد فعلت فعلتها، وأغرقت الأرض بماء منهمر، فإن تصميم شوارع نصف البلد كان يجعل الأمطار تقوم مقام «عربيات الرش» التى كانت تسهر الليل ذهاباً وجيئة لغسل الشوارع، فما إن أصبح الصباح إلا وكان شارع عدلى يكن فى أبهى صوره، وعلى ناصية شارع عدلى المطلة على شارع سليمان باشا الفرنساوى كان المقهى القديم الذى عمره من عمر الشارع قد فتح أبوابه ليستقبل رواده، وكان أول من دخل شابٌ فى العقد الثالث من عمره، متوسط الطول، نحيف القوام، غائر الوجنتين، ذو وجه طولى يرتدى ثياباً أفرنجية وطربوشاً محكماً على رأسه، وكانت ثيابه تدل على أنه موظف بسيط فى إحدى الهيئات الحكومية. جلس الشاب النحيف داخل المقهى الفاخر فى الجزء الذى يطل على شارع عدلى يكن، وارتشف كوب الشاى والتهم بقضمة واحدة أو قضمتين قطعة الكيك، ثم قام بسداد الحساب وانصرف سريعاً. اتجه الشاب إلى ناحية ميدان العتبة وكان يحمل فى يده حقيبة جلدية سوداء منتفخة من جانبيها تشبه الحقائب التى كان يحملها «باشكاتب» هذه الأيام، إلا أن الشاب كان ينوء بحمل هذه الحقيبة إذ ما إن وصل إلى ميدان العتبة حتى أصبحت خطواته بطيئة وأخذ العرق يتصبب من جبينه رغم برودة الجو! وبعد دقائق أصبح الشاب فى ميدان باب الخلق حيث محكمة استئناف مصر وكانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة
والنصف. دلف الشاب إلى المحكمة وتقابل أثناء دخوله مع شاب آخر فى نفس عمره تقريباً وأخبره بأن النائب العام لم يحضر بعد، ثم انصرف من أمامه سريعاً. صعد الشاب النحيف درجات السلم الأوسط بالمحكمة، واتجه مباشرة إلى مكتب سكرتارية التحقيق الذى كان قد عاينه من قبل، وحين دخل ألقى السلام بلكنة ريفية على الموظف الجالس الذى كان يحتفظ فى الدولاب الخلفى له بملف متخم بالأوراق، مكتظ بالوثائق والأدلة هو ملف قضية السيارة الجيب المتهم فيها بعض الإخوان، وكان على رأسهم الشاب مصطفى مشهور، الذى أصبح مرشداً للإخوان فيما بعد فى أحد أيام المستقبل، أما قضية السيارة فلها حكاية طويلة، ولكن ليس الآن مقام الحديث عنها إلا فقط لكى نعرف أنهم مجموعة من شباب الإخوان ازدادوا تطرفاً وكرهاً للوطن، حملوا ذات يوم منذ شهرين سابقين على الواقعة التى نحكيها مجموعة من الأسلحة والقنابل والخرائط فى سيارة جيب، ومن فرط إهمالهم لم تكن لسيارتهم هذه لوحات معدنية، ثم زاد على خيبتهم أن أصاب السيارة عطل، فتوقفت عن السير فى أحد شوارع العباسية، فشك فيهم «كونستابل» المنطقة، وحين اقترب منهم ليستعلم عنهم فروا هاربين وتركوا السيارة، فطاردهم هو والأهالى وتم القبض عليهم جميعاً، وحين عاد الكونستابل للسيارة مع المقبوض عليهم، والأهالى الذين ساعدوه اكتشفوا أن السيارة عامرة بكل أنواع الأسلحة الخفيفة وكثير من القنابل، فضلاً عن خرائط كشفت التحقيقات فيما بعد عن أنها كانت لمناطق هامة فى القاهرة كانت الجماعة
الإخوانية الإرهابية تعتزم تفجيرها وحرقها، واستمرت التحقيقات وكشفت عن مخططات إجرامية وتحدثت الصحافة وثار الرأى العام على الجماعة التى كانت تدعى أنها إنما أنشأت الجهاز السرى ليقاوم الاحتلال الإنجليزى، فإذا به يمتد بِشرِّه إلى مصر، فيعيث فيها فساداً، وكان أن تم حبس المتهمين فى القضية على ذمة التحقيقات إلا أن جماعة الإخوان فكرت فى أمر ودبرت له تدبيراً. نعود إلى فتانا الشاب النحيف، الذى بدا فى صورة الموظف البسيط وهو يلقى السلام على سكرتير التحقيق الذى يحتفظ بملف قضية «السيارة الجيب» وبأريحية الشخصية المصرية استقبله سكرتير التحقيق بمودة وبشاشة وجه، وسأله عما يريد، فأخبره الشاب بأنه موظف فى محكمة الزقازيق وجاء ليعرض بعض الملفات على النائب العمومى، وأنه علم أن معالى النائب لم يأت بعد، ولذلك آثر أن ينتظره فى هذا المكتب القريب من مكتب النائب، فرحب به سكرتير التحقيق أيما ترحيب، وقدم له مقعداً خشبياً ليجلس عليه ريثما يحضر معالى النائب العمومى. خلع الشاب النحيف طربوشه ووضعه على المكتب الذى أمامه، ثم دس الحقيبة خلف كرسى سكرتير التحقيق، لتكون أقرب ما تكون لدولاب حفظ الملفات، وحين جاء الساعى الذى يعد المشروبات الساخنة ألح سكرتير التحقيق على فتانا النحيف أن يشرب شيئاً إلا أنه قال له: «لقد خرجت من
الزقازيق قبيل الفجر، ولم أتناول إفطارى بعد، لذلك إذا أذنت لى أن أخرج إلى الطريق حتى أتناول إفطارى فى مطعم قريب، وسأترك معك حقيبتى وطربوشى، وسأعود فى أسرع وقت، ولعل النائب العمومى يكون قد جاء إلى مكتبه آنذاك». وقبل أن يتلقى إجابة، خرج سريعاً واختفى من أمام الأنظار كأنه لم يكن، ولكن ما لم يعلمه هذا الشاب النحيف أن الله خلق الريب والشكوك لتكون حصناً للإنسان يحميه من غوائل البشر الذين ألهمهم الشيطان شروره، ومن رحمة الله بعباده أن ارتاب سكرتير التحقيق فى الأمر برمته، إذ رأى أنه كان من الممكن أن يتناول هذا الموظف الريفى الغريب إفطاره قبل أن يصعد للمحكمة، فلماذا أجّل هذا الأمر إلى ما بعد صعوده؟! خاصة أن عرض بعض الملفات على النائب العمومى لا يستلزم ساعة معينة، إذ كل ساعات النهار متاحة! فضلاً عن أنه كان فى إمكان هذا الموظف أن يترك هذه القضايا لدى الموظفين العاملين فى مكتب النائب، فلماذا اختار أن يجعل مكتبه هو مستقره، ولكل نبأ مستقر!. التفت سكرتير التحقيق خلفه، فوجد الحقيبة السوداء المنتفخة رابضة فى مكانها وكأنها تنظر إليه شزراً، فحملها وهمّ بأن يفتحها إلا أنه سمع دقات كدقات الساعة، فهرع جرياً من الحجرة وذهب إلى مكتب النائب العمومى فوراً حيث استعان بأحد الحرس الرسميين من رجال الشرطة الذين يقفون بباب النائب، وقص عليهم الحكاية فتوجهوا معه إلى حجرته وشاهدوا الحقيبة، وعلى الفور أسرع أحد رجال الشرطة السريين بالحقيبة عدواً خارج المحكمة،
وهو يقول: «وسّع الطريق قنبلة قنبلة» والناس من حوله يفرون بعيداً حتى وصل إلى باب المحكمة الجانبى، فألقى الحقيبة بعيداً و انفجرت الحقيبة بعد استقرارها على الأرض بثوان معدودة، فأصيب ثلاثة من المارة إصابات مختلفة إلا أنه لم يُقتل أحد. وفى ذات الوقت، كان باقى أفراد الشرطة السرية، ومعهم سكرتير التحقيق يحاصرون الشاب النحيف الذى أخذ يجرى بكل ما أوتى من قوة إلا أن أهل المنطقة ضيّقوا عليه الخناق، وفى التحقيق قال الشاب إن اسمه «شفيق إبراهيم أنس»، وإنه ينتمى لجماعة الإخوان غير أنه أنكر كل صلة له بهذه الحقيبة وبما فيها، فقام وكيل النائب العام المحقق بوضع الطربوش على رأس المتهم، فاتضح أنه مقاسه، فاعترف المتهم، ثم بعد أن كتب حسن البنا بعد ذلك بياناً قال فيه: «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين» أدلى شفيق أنس باعترافات أخرى عن قيادات الجهاز السرى وطريقة تنظيمهم داخلياً والمهام التى تُسند إليهم. هذه هى جماعة الإخوان، وهذا هو تاريخهم وستظل مخططاتهم كلها فاشلة ..!!