الأقباط والدولة الفاطمية (جزء رابع)
فاروق عطية
الخميس ٣ يناير ٢٠١٩
فاروق عطية
.
الأقباط تحت حكم الظاهر لأعزاز دين لله الفاطمي (1020ـ1036م)
الظاهر لإعزاز دين الله هو أبو الحسن علي إبن الحاكم بأمر، أمه تدعي آمنة بنت الأمير عبد الله بن المعز، تولي الحكم خلفا لأبيه الحاكم بأمر الله بعد اختفائه أو مقتله، بويع بالخلافة في يوم عيد الأضحى سنة 411 هجري وله من العمر ست عشرة سنة وثلاثة أشهر. واتفق في هذا اليوم أن صُلى للحاكم في خطبة العيد، ثم بويع الظاهر بعد عودة القاضي من المصلى فكان بين الدعاء في الخطبة للحاكم وبين أخذ البيعة للظاهر ثلاث ساعات. يروي المقريزي أن عمته ست الملك هي التي خلعت عليه لقب الظاهر لإعزاز دين الله: "فأخرجت علي بن الحاكم بأمر الله ولقبته الظاهر لإعزاز دين الله وألبسته تاج المعز جد أبيه. وهو تاج مرصع بالجواهر الفاخرة وجعلت على رأسه مظلة مرصعة. وأركبته فرسا رائعا بمركب ذهب مرصع وأخرجت بين يديه الأمير الوزير رئيس الرؤساء، خطير الملك أبا الحسن عمار بن محمد ونسيماً صاحب السيف في عدة من الأستاذين تخدم. فلما برز وشوهد تقدم الوزير وصاح: يا عبيد الدولة مولاتنا تقول لكم هذا مولاكم أمير المؤمنين فسلموا عليه فقبل ابن دواس الأرض ومرغ خديه بين يديه وفعل ما يتلوه من سائر طبقات العسكر مثل ذلك. وضربت البوقات والطبول وعلا الصياح بالتكبير والتهليل والظاهر يسلم على الناس يمينا وشما".
حيث أنه كان حدثا لم يبلغ سن الؤشد بعد، أصبحت عمته «ست الملك» الحاكمة الفعليَّة للدولة، وتمكَّنت من إدارة شؤون الدولة بصورةٍ جيِّدة، وقامت بتدبير مملكته أحسن قيام، وبذلت العطاء في الجند وساست الناس أحسن سياسة. كما ظلت في عطفها على الأقباط وساندت كثيراً البطريرك الخلقدوني وأجزلت له العطايا. إلا أنها توفت في منتضف عصره سنة 415 هـ،
اتبع الظاهر سياسة متسامحة مع الأقباط فأقر الردة صراحة، حيث سمح للأقباط المتحولين للاسلام خوفاً في عهد والده بالعودة للمسيحية حيث أعطاهم الحرية والأمان في ممارسة إيمانهم على أن يدفعوا الجزية عن الفترة التي قضوها في الاسلام، وأقر هذا الخليفة على أن أختيار الدين لابد أن يتم بحرية وليس تحت إكراه. ويمكن القول مجملاً أن في فترة خلافته نال الأقباط حريتهم واستعادوا ثقتهم وطمأنينتهم ووصل بعض الأقباط في غناهم شأناً عظيما.
في ذو الحجة 413 هـ (5 مارس 1023م) عندما وصل الحجاج المصريين إلى مكة وثب شخص من الحجاج إلى الحجر الأسود وهو مكانه من البيت الحرام، وضربه بدبوس كان في يده حتى شعثه وكسر قطعاً منه، وعاجله الناس فقتلوه، وثار المكيون بالمصريين فقتلوا منهم جماعة ونهبوهم، حتى ركب أبو الفتوح الحسن بن جعفر فأطفأ الفتنة ودفع عن المصريين. وقيل أن الرجل الذي فعل ذلك من الجهال الذين استغواهم الحاكم بأمر الله وأفسد عقائدهم.
ًوقد سار عهد الظاهر بهدوءٍ في البداية، إلى أن بدأت الثورات ضدَّه، فخرج عليه صالح بن مرداس الكلابي وقصد حلب وبها مرتضى الدولة أبو نصر بن لؤلؤ الحمداني نيابة عن الظاهر، وحاصرها إلى أن انتزعها منه. ثم جاء حاكم الرملة «حسان بن المفرج بن دغفل البدوي» وانتزع منه معظم أنحاء الشام. في عام 1027م وقع الظاهر إتفاقية سلام مع الإمبراطور قسطنطين الثامن إمبراطور القسطنطينية يتم بموجبها ذكر اسمه والدعاء له في المساجد الواقعة في الإمبراطورية البيزنطية على أن يسمح للإمبراطور بإعادة بناء كنيسة القيامة، وهذا ما نفذه الإمبراطور فورا. وقد دام حكم الظاهر لخمسة عشرة سنة، ثم توفِّي صغيرًا.
. الأقباط تحت حكم الخليفة المستنصر بالله الفاطمي (1036ـ1095م)
بعد موت الظاهر لإعزاز دين الله تولي الخلافة ابنه معد المستنصر بالله وهو في السابعة من عمره الذي حكم البلاد فترة طويلة (60 عاما) ليكون أطول الخلفاء الفاطميين عهدا على الإطلاق. في بداية عهده كانت أمُّه وبعض وزرائه هم الحكام الفعليِّين للدولة. كان النصف الأول من خلافتة مزدهرًا ازدهارًا عظيمًا، فوصلت فيه الدولة الفاطميَّة أوج قوَّتها واتّساعها، وامتدَّت حدودها من المغرب إلى العراق، بل وقد تمكَّن عام 1058م
رجلٌ من حلفاء الفاطميّين يدعى «أبا الحارث البساسيري» من الاستيلاء على بغداد والقبض على الخليفة العباسي، وأقام الخطبة فيها للخليفة الفاطمي المستنصر، وكانت تلك أوَّل وآخر مرَّة في التاريخ تقام بها الخطبة ببغداد للفاطميين. إلا أن الأمور بدأت في الاضطراب فيما بعد فأصيبت مصر بمجاعةٍ هائلة استمرَّت سبع سنوات (من سنة 1065 إلى 1071م)، وهي تُعرَف باسم «الشدَّة العظمى» و«الشدَّة المستنصريَّة» وعمت الفوضى الداخلية أركان الخلافة. زادت في عهدة مساوئ المرتزقة الأتراك حتى وصلت إلى نهب قصر الخليفة نفسه. اشتبك في عهده الجند الأتراك مع الجند السود في معارك طاحنة، وصلت البلاد لحالة شديدة من القحط حتى لم يجد الناس ما يأكلوه. وبدأت العديد من أقاليم الدولة بالتمرُّد على الفاطميّين، فانقطعت الخطبة عن المستنصر في مكة والمدينة عام 1070م ليُخطَب عوضاً عنه للخليفة العباسي مجدَّدًا، وحدث نفس الحال بالمغرب حيث قطع أمير بني زيري المعز بن باديس علاقته بالفاطميِّين وحوَّل ولاءه إلى الخلافة العباسيَّة. أما بغداد التي كانت قد انضمت حديثا للفاطميين فقد قتل حاكمها البساسيري علي يد سلطان السلاجقة طغرق بك لتنتهي سلطة الفاطميين حتي نهايتهم. ولم يتوقف السلاجقة عند هذا الحد، بل تابعوا التقدُّم غربًا ليصطدموا بالدَّولة الفاطمية مرة أخرى في بلاد الشام، ونجح سلطانهم جلال الدولة ملك شاه بانتزاع معظم بلاد الشام من الفاطميين بما فيها القدس وفلسطين سنة 1070م. وتسبب عجز المستنصر عن السيطرة على هذه الأحداث بانهيار هيبته تمامًا في الدولة. وفي عام 1073م وقع صدام في الجيش بين المغاربة أولاً، والتُرك ثانيًا، والسُّودان ثالثًا، ووقعت معاركة كبيرةٌ بينهم وكثر القتل.
بدأت الدَّولة تخرج تمامًا عن السَّيطرة، وأخذ التُرك يصبحون الحكَّام الفعليِّين للدولة عوضًا عن الخليفة نفسه، تتابع الوزراء بغية حل المشاكل الاقتصادية دون جدوى، ونتيجة لفشل الوزيرين "اليازوري" و "قصر الدولة" في اصلاح حال البلاد، (ويذكر لهاذين الوزيرين مبالغتهما في إضطهاد الأقباط وابتزاز أموالهم وغلق كنائسهم وهدمها أيضا) فقرَّر المستنصر الاستعانة بحاكم عكا الأرمني بدر الدين الجمالي (كان عبداً ارمنياً فاسلم ثم تدرج في الوظائف العليا)، وهو أشبه بدكتاتورٍ يُعرَف بشدَّته وقدراته الإدارية والتنظيميَّة العالية. استدعى المستنصر بدر الجمالي ليتسلَّم منصب وزراة الدولة الفاطمية وقيادة جيشها، فوافق بعد أن وضع شروطه قبيل استوزاره للخليفة ورفض محاولة الآخير مناقشتها. وجاء إلى مصر، وكان وزيرًا مهيبًا من أقوى الشخصيات التي حكمت مصر الاسلامية، فأعاد للدَّولة قوَّتها واستقرارها وثبَّت أركانها من جديد. ولكي يدير البلاد اعتمد على فريق من الأرمن والجنود السوريين بعد استبدال الجنود السابقين بهم. قام كذلك باغتيال امراء الأتراك أثناء وليمة دعاهم إليها. ووصلت الدولة في عهده أوج قوَّتها وازدهارها، فشيِّدت القصور وازدهر العلم والحضارة، وعادت الأموال الكثيرة إلى مصر. ارتفع الخراج من مليوني دينارٍ في سنوات المجاعة إلى أكثر من ثلاثة ملايين. من جهةٍ أخرى فشل بدر الجمالي في بعض النواحي العسكرية إذ لم يستطع حماية بلاد الشام من تقدُم السلاجقة الترك شرقا والصليبيين الأوروبيين شمالا، فخسر الفاطميون كل الشام ما عدا مدينة عسقلان. لم يكن مجيئ بدر الجمالي جيدا تمامًا للمستنصر، فقد بدأ ينازعه على السُّلطة، وتنامى نفوذه بدرجةٍ كبيرة جدا حتى أصبح أقرب إلى الحاكم الفعلي للدولة الفاطميَّة.
عم الهدؤ والرخاء البلاد في عهد الجمالي، كذلك مالت العلاقة بين المسلمين والمسيحين في وقته للاعتدال، وإن كان مال أيضاً في أحوال كثيرة لفرض الأتاوات على البطريرك وزيادة الضرائب على الأقباط عامة حتى يضمن إنعاش خزينة الدولة. أصدر الجمالي عام 1086م مرسوماً يلزم أهل الذمة بشد زنار اسود على مناطقهم، كذلك فرض عليهم ضريبة استثنائية قدرها دينار وثلث الدينار عن كل فرد. مات الجمالي عام 1094م فعين الخليفة أبنه الأفضل شاهنشاه مكانه، وقد نشأت أول حرب صليبية وقت وزارته للخليفة التالي. يذكر لبدر الجمالي وأبنه تشجيع الأرمن على القدوم إلى مصر وتنامي نفوذهم بها. واستمرَّت الحال هكذا حتى وفاة المستنصر سنة 1094م، بدأ عهد إضمحلال الخلافة الفاطمية، والذي تميز بتزايد نفوذ الوزراء الذين استعان بهم الخلفاء الضعفاء اللاحقون له. فبدأ بذلك «العصر الفاطمي الثاني»، الذي كان الوزراء فيه هم الحكَّام الفعليِّين للدولة. من هؤلاء الوزراء شاور وأسد الدين شيركوه وصلاح الدين.