الأقباط: ملف أمن دولة؟
ماهر عزيز بدروس
الاثنين ١٧ ديسمبر ٢٠١٨
ماهر عزيز بدروس
يُذهَل المَرءُ من جميع أقطاره حين يجد جزءاً أصيلاً من كيان وطن قد صار موضع المراقبة والتحكم من جزء آخر فيه تمكن بواقع أغلبيته السائدة واختلافه العقيدى من التحكم بمقاليد الأمور والقبض بمفرده على مؤسسات الوطن السيادية كلها على الأخص ما يسمى "جهاز أمن الدولة" (أو الأمن الوطنى بحسب الصياغة المعدَّلة فى منعطف المؤامرة الكبرى وسنوات التدمير).. فصار الجزء المتمكن بمقتضى هذا الواقع عينه يضع قيوداً جائرة ومراقبات مشينة على جزئه الأصيل الآخر مفترضاً انتقاصاً مرعباً من وطنيته ومن افتدائه، رغم السجل الوطنى المشهود عبر التاريخ كله بفنائه المطلق لأجل الوطن.
وإذا سألنا : أى أمن؟
لن تكون هنالك إجابة صريحة شافية أبداً.
لكن الأمر يقتضى أن يصاغ السؤال على نحو آخر:
هل يهدد الأقباط أمن دولتهم التى يفتدونها بأرواحهم فى صدارة الصفوف على الدوام؟
هل يهدد الأقباط أمن دولتهم التى جادوا فيها بطلائع مُبهرة على مر العصور أثرت الوطن بإنجازات رائعة حُسِبَتْ لتقدمه ونهضته وتوطيد أمنه؟
ويلح السؤال قاسياً ومحيراً:
فيمَّ يُهدِّد الأقباط أمن دولتهم ليصيروا ملفاً خطيراً فى أمن الدولة؟
لكن الأمر يتبلور على نحو أخطر حين توجد معظم ممارسات أمن الدولة تجاه الأقباط منحصرة فى دائرة التحكم فى عبادتهم.. التحكم فى كنائسهم.. التحكم فى إيمان من يؤمن بإيمانهم.. التحكم فى وجودهم ومحاصرتهم وعزلهم والتضييق عليهم أبداً فى حياتهم ومعيشتهم؟
ولأن الأقباط فى الوطن المصرى كثيراً ما تتعالى أصوات فى كل عصر وكل جيل بوضعهم فى قفص اتهام خيالى تصورى من بطن أفكار غريبة ومؤلمة لإقصائهم عن انصهارهم الأصيل فى وطنهم،وتَدَّعى عليهم بالكفر والزندقة لفرزهم وعزلهم عن شراكتهم الأزلية الأبدية فى بلدهم العتيد، كَـلُحْمَتِهِ أوسُداه.. صاروا يتعرضون للإقصاء والعزل والتضييق بشكل متعمد يجور على حقهم الإنسانى المشروع فى الحياة والكرامة والعبادة والأمان.. واستمروا للأسف موضع المراقبة كأنهم غرباء فى وطنهم من قبل جهاز أمن الدولة،ليتحولوا من بشر أسوياء ينصهرون مع بنى جلدتهم المصريين مهما كانت عقديتهم مغايرة فى وطن واحد...ليتحولوا إلى ملف خطير فى أمن الدولة يفرزهم بمرصاد من حيث هم أقباط ليضيق عليهم فى حقوقهم الإنسانية الأصيلة بدعوى الأمن!!!
فهل تحول أمن الدولة إلى أمن الدين؟
هل تحول أمن الدولة إلى أمن الدين؟
هل صارت كل مهمة أمن الدولة أن يختزل أقباط الوطن فى ملف أمنى، وكل فحوى هذا الملف الأمنى أن يعتقل الأقباط فى بئر الخطورة باعتبار ديانتهم تهديداً مروعاً لدين الأغلبية الذى جعلته الدولة ديناً لأجهزتها - رغم خلو الكيانات المعنوية من الدين- وبالتالى يتعين درء خطر ديانتهم الرهيب، وحصارها وتهديدها فى كنائسها ومظان عبادتها والتضييق على بنائها والمصلين فيها؟
بل والوقوف بالمرصاد لمن تسول له نفسه أن يدين بها أو حتى يعترف بحقوق مشروعة لمعتنقيها؟ فى الوقت الذى يفتح فيه الباب على مصراعيه بترحاب شديد وتشجيع أشد لدفع جموع غفيرة منهم لترك مسيحيتهم والخروج عن دينهم ومعتقدهم؟
إن كل مواجع الدولة المصرية تزول إذا مازال ملف الأقباط من أمن الدولة.
أمن الدولة يناقض رئيس البلاد الذى أعلن مقاومة الإرهاب حقاً من حقوق الإنسان.. ذلك أن أمن الدولة يحمى إرهاب العدوان الممنهج على الأقباط وكنائسهم فيؤكد أنه هو ذاته الذى أخرج العدوان المجرم من دائرة الإرهاب وأمن الوطن والمواطنين إلى دائرة أمن الدين، واغتصب حق أمن الدين من خالق الدين، وأقام نفسه أميناً على الدين لا الدولة بديلاً عن الخالق جل جلاله!!! وترك أمن الدولة نهباً للمجرمين!!!
قرارات الغلق للكنائس يتخذها أمن الدولة ذاته بدعوى الأمن المفترى عليه!!!
وأمن الدولة يجهض مشاركة الأقباط فى مصير وطنهم، ويفعل الأفاعيل ليختزلهم- وهم الملايين- فى شخص البابا ليسهل التعامل معه وإذلاله دون جهد يذكر، فيسحقون بذلك شعباً بأكمله.
أمن الدولة يدرك أن الكنيسة هوية للأقباط مرادفة لهوية الوطن، لأن مصر الكنيسة صدرت الإيمان والتراث منذ القرون الأولى للمسيحية إلى العالم أجمع بوصفها أقدم كنيسة فى التاريخ الإنسانى كله،ولذا تتضافر هويتها هذه مع الهوية الوطنية وتقويها وتسندها إلى أعلى عليين... ولكنه يجتهد لسحق هذه الهوية باعتبارها دينية مفصولة عن الوطن.
لم يكتف أمن الدولة بتكريس قانون عنصرى لبناء الكنائس بل راح يوظفه بفاعلية لغلق كل الكنائس وتحريم بنائها..
أمن الدولة فى سعيه ذاك يتخذ هو ذاته من السلفية مخلباً قوياً ليضرب أية محاولة للاستغاثة والاحتجاج ضد الظلم، ويكرس الخوف كشعور مستحكم فى الأقباط يشل مشاركتهم الوطنية على الدوام؟!!
أمن الدولة هو الذى يطلق الأصوات الناعقة التى تنفث التكفير والتحريض على القتل فى الإعلام والفضائيات كافة، بل ويؤمنها ويتفنن فى جعلها قائمة دائمة بنذر الموت فى الإعلام والفضائيات ليظل نداء التكفير والدعوة إلى الموت مواظباً دائماً دون هوادة.. بدل أن يحاسب هذه الأصوات النكراء أو يحجب شرها عن التماسك المجتمعى الذى كان سمة مصر فى أزمان قوتها ورخائها.
أمن الدولة بقفاز السلفية والقوى المحلية الرجعية المهلك يضرب ضربة النهاية لأية مشاركة فعالة للأقباط فيخضعهم ويسوقهم ليكفروا بدينهم وكنيستهم ضد الدستور، وضد كل حق إنسانى أصيل.
أمن الدولة إذ يعتمد الظلم والعسف والجور سياسة للدولة تجاه الأقباط ينشر رسالة ضمنية لجميع شعب مصر بدونيتهم،وعدم استحقاقهم، ليصيروا مرذولين متدنين ناقصين مهدرين فى المعاملة اليومية مع مواطنيهم وأشقائهم من غير المسيحيين؟
أمن الدولة فى ذلك كله يسلك كأنه كل الدولة،بينما باقى أجهزة الدولة ومؤسساتها الوطنية كأن لا دخل لها مطلقاً بما يأتيه أمن الدولة من ممارسات؟
قرأنا هذا المانشيت الفاجع فى وسائل الإعلام: "تخوفاً من المتشددين.. إلغاء قداس اليوم"
فإذا بالسؤال يلح ويتعجب:
ما وظيفة أمن الدولة إذن؟!
أيحمى المتشددين ويشجعهم لسلب أصحاب الحق؟
هل تلك وظيفته؟
أمن الدولة يكرس الاضطهاد للأقباط فى أجلى صوره.. ويمتنع عن حمايتهم عمداً ليتركهم فريسة للمجرمين الخارجين على القانون (المدعوين خداعاً بالمتشددين)،بل ويدفعهم كثيراً لفعل ذلك فى توازنات أمنية مزعومة، فَيُسْقِط القانون الذى يتعين أن يسهر هو على حمايته، ويتبنى صراحة الفكر الذى يتحصن به المجرمون لتخريب الدولة؟
الإدعاء بإغلاق الكنائس لدواعى أمنية هو إدعاء مفضوح.. لأن الدولة تحمى الآلاف فى أماكن تجمعهم كالمؤتمرات وغيرها.. بينما تدعى العجز عن حماية عشرات المصلين أمام بضعة مجرمين يوظفون للعدوان والسلب والقهر.. مطمئنين لحماية أمن الدولة الذى يضمن لهم أبداً الإفلات من طائلة القانون!!!
أمن الدولة هو الذى يفرض جلسات الصلح العرفية حين يعتدى المجرمون على جماعة من الأقباط فى أى مكان بمصر، ويسلبونهم حقوقهم، وينكلون بهم،فيمكن المجرمين المعتدين من الإفلات بجرمهم وغنائمهم فضلاً عن إعلاء سيطرتهم لإذلال الأقباط فى دوائرهم فلا يعودون يستطيعون العيش فيهجرونها قسراً..
أمن الدولة هو الذى يدوس القانون بنعليه ويرفض تطبيقه مُكرساً بدلاً منه جلسات الخزى والعار هذه التى تُنْهَبُ فيها حقوق الأقباط وتُسلَّب كرامتهم.
أمن الدولة هو الذى يغلق الكنائس المفتوحة ويحمى المعتدين عليها من المساءلة أو حكم القانون.
هل بعد تمكين المجرمين هكذا (المدعوين كذباً بالمتشددين) ننتظر وطناً يتقدم على مدارج الحضارة بالأمن والأمان والحفاظ على الإنسانية المجاهدة لحياة شريفة نظيفة ووطن متقدم رفيع الشأن؟
أمن الدولة حيال الأقباط لم يعد أمن الدولة بل أمن الدين..
بينما مؤسسات عديدة فى الدولة تعتنى بالدين العناية الواجبة..
أمن الدولة وهو يظن خادعاً أنه يحمى أمن الدين يهدد الأمن الداخلى للدولة ويطعنه بخنجر القلاقل والإضطرابات وعدم الاستقرار.
أمن الدولة بحصارة الأقباط يخرب الدولة ويهدم كل ما يبنيه الرئيس والحكومة ويرسخ بديلاً عنه الانقسام والتفكك.
يفعل أمن الدولة ذلك خصماً من سمعة مصر وكرامة المصريين..
خصماً من السلام الوطنى والإخاء الإنسانى للمصريين عبر السنين..
خصماً من حكم رئيس وطنى عظيم وتشويهاً لشخصه ونضاله وأمانته.
تخسر مصر خسارة هائلة حين يكون الأقباط مجرد ملف أمن دولة..
مزقوا هذا الملف سريعاً..
ليس أحرص على أمن الدولة من الأقباط وليس أكثر منهم فداءً لوطنهم.
ليُّنزَع الأقباط سريعاً من قبضة أمن الدين لأن " لكم دينكم ولى دين ".
وليكونوا مواطنين كرماء فى بلادهم تحت سقف المواطنة الكاملة فى قضاء القانون.. والقانون فحسب..
فإذا انتهى الأقباط من مجرد "ملف أمن دولة" إلى بشر حقيقيين لهم مواطنة شاملة وأمن وأمان كامل على ترابهم الوطنى عندئذ فقط ستزدهر البلاد.
نفهم أن يكون المسجلون خطر "ملف أمن دولة"..
وأن يكون لكل عدو خارجى متربص بالوطن "ملف أمن دولة"..
وأن يصير لمتآمرى الداخل والخارج "ملف أمن دولة"..
أما أن يكون 18 مليوناً من البشر فى البلاد "ملف أمن دولة".. فذلك عجيب فى الدنيا والآخرة؟
وأن يكون قسيم مشارك فى مجد الوطن وفدائه طول الأزمان "ملف أمن دولة" فذلك انتحار وطن على خنجر التمييز والفرز والتعصب والتضييق.
ألا فلتمزقوا هذا الملف مرة واحدة وإلى الأبد..
ولتحرقوه فى أتون العدل والحق والمساواة والإنسانية.
أزيلوا هذا الملف من أمن الدولة لكى ينتهى الأقباط من مجرد "ملف فى دولة"، إلى جزء أصيل من الوطن...
وعندئذ فقط ستتقدم مصر.