الأقباط والدولة الفاطمية (الجزء الثاني)
فاروق عطية
٤٣:
١٠
ص +02:00 EET
السبت ٨ ديسمبر ٢٠١٨
فاروق عطية
الأقباط تحت حكم العزيز بأمر الله (976ـ996م):
تولى العزيز بأمر الله الخلافة أثر تنازل والده المعز لدين الله عنها عام 976م بسبب اعتناقه للمسيحية. امتازت فترة حكمه بالتسامح في معاملة الأقباط ملكانيين كانوا أويعاقبة، وتقريبهم إليه وحصولهم علي أعلي المناصب، كما اهتم بعمارة الكنائس وحراسة العمال البنائين من هوجات الغوغاء من المسلمين عليهم، كما عمل على إلغاء الفوارق الاجتماعية بين المسلمين والذميين، ودعا إلى المساواة بين كل المصريين دون النظر للدين أو الجنس أو اللون.
تزوج العزيز من أمرأة مسيحية ملكانية، وظلت زوجته وكذلك ابنته منها حريصتين على رعايا المسيحيين وخاصة الخلقدونيين. وتحت إلحاح زوجته عين نسيبيه أرسين وأرستيد بطريركين ملكانيين أحدهما للاسكندرية والآخر لأنطاكية. في عهده بلغت الخلافة الفاطمية أوج عظمتها، سواء على المستوى العسكري من خلال الحروب والانتصارات التي أحرزها على البيزنطيين، أو على المستوى الإداري من خلال تنظيمه للأمور الإدارية وبيت المال بتحديد مرتبات ثابتة للموظفين والقضاء على الرشوة.
إنتقده المسلمون كثيراً لاعتماده على أهل الذمة في الوظائف العليا، كذلك لاعتماده على من تراهم العامة مسلمين إسماً كيعقوب بن كلس الذي كان يهودياً واعتنق الإسلام طمعاً في الوزارة، فعينه المعز لدين الله مستشاراً له وأمينا علي بيت المال، ثم عينه العزيز وزيراً له. بعد موت يعقوب بن كلس اختار العزيز بأمر الله عيسى بن نسطورس المسيحي وزيرا له. وللمرة الأولي منذ الاحتلال العربي لمصر يوقف العزيز بأمر الله حد الردة القاضي بمعاقبة من يترك الإسلام ويعتنق المسيحية بالموت. كما أمر العزيز بنقل كرسي البطريرك الغير خلقدوني من الاسكندرية إلى القاهرة ليكون قريباً منه، وأجلّه كثيراً وفوض له أمر ترميم وبناء الكنائس، وحين اعترض الغوغاء من المسلمين العمل عيّن جنوداً لحراسة العمل والعمال (أثناء العمل في كنيسة القديس مكاريوس بالفسطاط).
في عام 380هـ حدث حريق بصناعة المقس واكلت النار جميع الصناعة كما احترقت بعض السفن الكبيرة بما فيها من العدة والعتاد التي كانت معدة لمحاربة البيزنطيين. كان بالقرب من الصناعة منطقة اسمها دار مالك كان يسكنها الروم والقبط المسيحيين فاتهمهم البحريون المسلمون بإشعال النار عمدا في الصناعة، وقامت الغوغاء بالغارة عليهم وقتلوا منهم أكثر من مائة رجل وألقوا بجثثهم في الطرقات ونهبوا بيوتهم وأموالهم التي تبلغ تسعين ألف دينارا وقبضوا على من بقي منهم وحبسوهم. وعندما علم العزيز بالحادث أمر بتجديد السفن ورد ما نهب من الروم والقبط، فنودي في المدينة بذلك واشتد الطلب علي الناهبين وقبض عليهم وتمت معاقبتهم بالضرب المبرح والحبس والبعض بالقتل صلبا وترك جثثهم معلقة حتي يراها الناس فتكون رادعا لهم.
يذكر يعقوب نخلة في كتابه تاريخ الأمة القبطية أن الوزير يعقوب بن كلس كان يغار من رجلا مسيحيا يدعي قزمان بن مينا الملقب بأبي اليمن وذلك لميل الخليفة العزيز بأمر الله إليه، وخشي أن يأتي وقت يعزله فيه الخليفة ويولي أبا اليمن بديلا له، واتفق أن ولاية فلسطين التابعة لمصر كانت خالية من حاكم لها والخليفة يفكّر فيمن يصلح لتوليته، انتهز ابن كلس هذه الفرصة لإبعاد أبى اليمن من مصر فسعى لإقناع الخليفة بأن افضل من يصلح لهذا المنصب هو أبو اليمن لاستقامته وإخلاصه ونزاهته فاستحسن الخليفة رأيه وولي أبا اليمن حاكما علي فلسطين الذي أدارها بكل إخلاص وحنكة.
كان هناك رجلا يدعي هفكين من بغداد طمع في غزو بلاد الشام وأغار عليها واستولى على جزء عظيم منها ونهبها وهزم الجيوش المصرية وانتصر عليها. خشي أبو اليمن أن يحدث له ما حدث لغيره وخاف علي أموال الدولة التي كانت في عهدته وكانت تبلغ نحو مائتي ألف دينار فجمعها وأخفاها في دير بعيد بالجبل. إضطر قائد الجيوش المصرية جوهر الصقلّي لعقد صلح مع هفكين علي شروط متفق عليها. ولما علم ابن كلس بهذا الصلح جعله سببا لبلوغ مأربه واتهم أبو اليمن بالخيانة والتقصير وحرض العزيز على قتله.
قام العزيز علي رأس جيشه لمحاربة هفكين وانتصر عليه، فتقدم إليه أبو اليمن وأعلمه بما كان من أمره وأمر الأموال التي كانت في عهدته وأحضرها من مخبئها وسلمها له، شكره الخليفة علي أمانته ورفع مقامه وأقره علي وطيفته. وقبل أن يعود إلي فلسطين أعطي معظم أمواله إلى البطريرك لينفقها على الفقراء وأهل الحاجة. وظل في وطيفته حتي توفاه الله.
كان الأقباط تحت حكم العزيز متمتعين بالراحة والرفاهية، متقلدين الوظائف الرفيعة ولهم الكلمة النافذة في دوواوين الحكومة، حدث بينهم شقاق داخلي أقض راحتهم وكدر صفاءهم، ذلك أنهم ألفوا عادة التسري بالنساء تشبها بالمحتلين العرب الذين يبيح لهم دينهم ذلك (نكاح ملكات اليمين) ولم يجدوا من القادة الروحانيين من يعارضهم أو ينكرها عليهم حتي ظنوا أنها ليست من المحرمات دينيا فصارت هذه العادة منتشرة بين الأغنياء منهم. ولما تولي الآب إفرام السرياني منصب البطريركية انكر عليهم هذه العادة وطلب منهم أن يقلعوا عنها لم يكن من السهل عليهم تركها ولم يلق منهم غير المقاومة وعدم الرضوخ، وكان من أعتى المقاومين له رجل ثري نافذ الكلمة يدعى أبو السرور، هدده البطريرك بالقطع إذا لم يذعن لأمره ويترك هذه العادة المذمومة، وألا يكون حجر عثرة لأخوانه الذين على شاكلته، فخشي أبو السرور سوء العاقبة لما ينجم عن إصراره بالرفض فتظاهر بالامتثال، وبعد قليل توفي البطريرك وقيل أن أبو السرور هو من دس له السُم في الطعام.
تولي البطريركية بعد نياحة الآب إفرام الآب فيلوثاوس الذي لم يعارض الشعب في عادة التسري التي كان يستقبحها سابقه لكنه كان مبغوضا من أُمته لأنه لم يهتم بغير صالح نفسه ومما زادهم كراهية له أنه كان رجلا شهوانيا راخي العنان للشهوات الجسدية والملذات العالمية فنقموا عليه واعتزلوه حتى مات.
كانت علاقة العزيز بأمر الله الجيدة بأهل الذمة عامة وبالمسيحيين خاصة سببا مباشرا لتنامي الأثار السلبية في نفوس المسلميين، وإن كانوا لم يقوموا بأعمال إنتقامية ضدهم في عهده فذلك لخوفهم فقط من عقابه، ولكن تأصل الكره داخلهم نحو أهل الذمة بوجه عام ونحو الأقياط بوجه خاص، ووجد هذا الكره متنفسه بشكل كبير لاحقا خلال حكم الخليفة الحاكم بأمر الله