البابا تواضروس الثانى .. رجل المواقف الصعبة
د. مجدي شحاته
الجمعة ١٦ نوفمبر ٢٠١٨
بقلم : د . مجدى شحاته
يوافق يوم 18 نوفمبر 2018 مرور ستة سنوات على تجليس نيافة الحبر الجليل الانبا تواضروس الاسقف العام على كرسى مار مرقس الرسولى . فى قداس الاحد الموافق 18 نوفمبر 2012 اجريت مراسيم تجليس قداسته ليصبح بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ال 118 . ولد قداسة البابا تاوضروس الثانى فى 4 نوفمبر 1952 ، ويوم ميلاده يوافق يوم اختياره بالقرعة الهيكلية بطريركا للكنيسة القبطية . تنقلت الاسرة فى المعيشة ما بين المنصورة وسوهاج ودمنهور والاسكندرية . بدأ حياة الخدمة وهو فى بداية مرحلة الدراسة الثانوية عام 1968 فى كنيسة الملاك ميخائيل الاثرية بمدينة دمنهور، مع الاب الموقر أبونا ميخائيل جرجس ( الذى رسم كاهنا عام 1963 وكان أب اعتراف قداسة البابا وهو طالبا ، ومن محاسن الصدف التى أعتز بها ،ان يكون أبونا ميخائيل من خريجى الكلية والجامعة التى تخرجت منها واب فاضل وصديق لى والاسرة بدمنهور ) . التحق الدكتور الصيدلى وجيه صبحى باق سليمان ( قداسة البابا حاليا ) بدير الانبا بيشوى بوادى النطرون فى 20 أغسطس 1986 ، وظل طالبا للرهبنة قرابة العامين . ترهبن بعدها فى 31 يوليو 1988 ، ورسم قسا فى 23 ديسمبر 1989 ثم انتقل بعدها للخدمة بمطرانية البحيرة ،
وأصبح من أبرز تلاميذ نيافة الحبر الجليل الانبا باخوميوس القائم مقام . نال درجة الاسقفية فى 15 يونيو 1996 كأسقف عام بمطرانية البحيرة باسم نيافة الحبر الجليل الانبا تاوضروس . فى اكتوبر 2012 اجريت الانتخابات البابوية فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية لأختيار ثلاثة آباء من الخمسة الموجودين بالقائمة النهائية للمرشحين والتى كانت تضم 17 من الاباء الموقرين وتم اختيار كلا من نيافة الحبر الجليل الانبا روفائيل ونيافة الحبر الجليل الانبا تاوضروس والقمص روفائيل أفا مينا . اجريت القرعة الهيكلية فى قداس الاحد 4 نوفمبر 2012 ، حيث وقع الاختيار الالهى على نيافة الانبا تاوضروس ليصبح بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ال 118 . ونشر موقع كنيسة الانبا تكلا هيمانوت الحبشى واقعة لها مدلولها جاء فيها : ان قداسة البابا حينما كان طفلا فى السنة الرابعة الابتدائية ، اصطحبته امه الى كنيسة الملاك ميخائيل الاثرية بدمنهور أثناء زيارة قام بها قداسة البابا مثلث الرحمات كيرلس السادس ، لترسمه شماسا، ولكن كبير الشمامسة أخرجه من الطابور لكونه غريبا عن الكنيسة . ورجعت الام الى بيتها حزينة باكية . لم يشعر الطفل وقتها بأهمية الموقف .. وعندما حضر الوالد من عمله ووجد الام حزينة متأثرة لعدم رسامة ابنها شماسا .. وفى اطار تطييب الخاطر قال لها : " بكرة يرسموه اسقفا " !! وتحقق القول أكثر وأكثر... لقد اختارته العناية الالهيه ليكون على رأس الكنيسة القبطية أعرق كنائس العالم .
وتمر ستة سنوات يحمل على كتفية مسئوليات جسيمة وحملا ثقيلا للغاية ، فى ظل أحداث سياسية عاصفة وازمات طائفية شرسة ، مرحلة صعبة كان يتم فيها خطف وسرقة الوطن الى
المجهول !! هذا بجانب أنواء الخدمة القوية وأمواج الرعاية العاتية ، ولكن جاء الاختيار السماوى بقداسة البابا تاوضروس الثانى راعيا صالحا ، وخادما أمينا ، بطريركا حكيما هادئا ، قادرا على تحمل المسئوليات الصعبة مهما بدت كبيرة أو خطيرة ، يقوم بعمله بعناية من الله وارشاد الروح القدس، بكل جدية وهدوء وبكل الامانة والدقة والالتزام مع الحزم وبلا تردد . اختاره الله ليؤكد أن عصر الآباء يمتد ويستمر ما دام روح الله يسكن الكنيسة ويعمل فيها، وان مسيرة الآباء الاتقياء لن تنتهى ..وليس ثمة أسم أب من اباء الكنيسة يمكن ان نقول ان عصر الآباء قد انتهى عنده .
مرت ستة سنوات من عمر حبرية قداسة البابا تاوضروس ، بابا المواقف الصعبة ، مملوءة وحافلة بالانجازات والنجاحات المتعددة الابعاد ، نسكيا ولاهوتيا وتربوبا و وطنيا ومسكونيا، فضلا عن الرعاية بكل أطيافها . ستة سنوات كانت حافلة أيضا بالضيقات والازمات وسلبيات قديمة متراكمة منذ عقود فى مجال العمل الرعوى والادارة الكنسية . القائمة طويلة ، يعوزنى الوقت أن أخوض فيها حتى ولو بايجاز واختصار . ولكن أود ان ألقى بصيصا من الضوء على محورين اثنين : البعد الوطنى والبعد المسكونى ، وردود الافعال فى كلا من البعدين .
من ناحية البعد الوطنى فلا شك ان الانتماء والوطنية سمة أصيلة فى تاريخ المسيحية فى مصر ، واستطاع قداسة البابا تاوضروس الثانى بعد توليه المسئولية فى ترسيخ و ارساء قواعد وطنية قوية لم تشهدها الكنيسة القبطية منذ نشأتها وكرازتها فى أرض مصر . واكد قداسة البابا انه عاشقا لمصر يفتخر ويزهو بها فى كافة المحافل الدولية ، وان الوطنية عنده ليست أقوالا وانما هى أفعال على ارض الواقع وحياة معاشة . فكان التاييد القوى والمطلق من تجاه الكنيسة لثورة 30 يونيه ، وكانت الكنيسة كيان أساسى ضمن ممثلى الشعب فى مشهد 3 يوليو 2013 أمام كل دول العالم . جاءت مبادرة البابا من منطلق شخصيته الحكيمة المتزنة الواعية وفكره الراجح ، مما يؤكد على أصالة الهوية والانتماء الوطنى وتفاعله وتجاوبه مع ثورة 30 يونية بكل الحكمة والفطنة والتعقل ، فكان صمام الامن والامان لوحدة وتماسك أبناء الوطن الواحد وسط أحداث مأساوية عاصفة كانت تنذر بنشوب نزاع طائفى مدمر لا قدر الله . كان هناك تفاعلا ايجابيا قويا غير مسبوق ، حينما قام الرئيس عبد الفتاح السيسي ليكون أول رئيس مصرى يزور ويهنئ الاقباط داخل الكاتدرائية ليلة عيد الميلاد ليصبح تقليدا سنويا يقوم به الرئيس كل عام ، ليكسر حاجز الخوف والتعصب الذى صنعه من سبقوه من رؤساء . وفى ليلة عيد الميلاد عام 2016 ، وفى ختام تهنئة السيد الرئيس بالعيد من داخل الكاتدرائية قال : " أدعو .. يارب .. انا هنا فى بيت من بيوت الله ، يارب احفظ مصر .. يارب أغننا بفضلك عمن سواك ". كلمات قوية لها معان أقوى . لاشك ان حكمة قداسة البابا ووعيه الوطنى وتفاعله الايجابى باقتدار مع تداعيات ثورة 30 يونيو وقيام المتطرفين من احراق وتدمير عشرات الكنائس والمؤسسات المسيحية بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة ، وقال مقولته الشهيرة : " وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن " . استطاع ان يقضى على مخطط الفتنة الطائفية المدمرة والهادفة لحرق الوطن بكامله، كما حدث لدول مجاورة ، وقال قداسته : " ان للحرية ثمنا وان حرق الكنائس ، هو هذا الثمن ، نقدمه لبلادنا بصبر وحب " . بعدها رفض قداسة البابا اى فكر للأستقواء بالخارج وقال مؤكدا : " الكنيسة لا تطلب حماية من أحد
لان الاستقواء يكون بالله وحده وليس بالخارج" . وكانت الكنيسة القبطية الوطنية قد أعلنت للعالم أجمع فى بيان لها رفضها بصورة قاطعة أى مبادرة عن مشروع قانون من الكونجرس الامريكى خاص بترميم الكنائس المتضررة وجاء فى نص بيان الكنيسة : " ترفض الكنيسة القبطية الارثوزكسية وبصورة قاطعة اى حديث عن مشروع قانون أمريكى خاص بترميم الكنائس المتضررة وتعلن أن الحكومة المصرية قامت بواجبها الكامل باصلاح وترميم الكنائس بجهود وأموال مصرية ، وأوفى الرئيس بوعده بانتهاء هذه الاصلاحات بنهاية العام الحالى وهذا ما تم فعله على أفضل وجه . "
وعلى محور البعد المسكونى جاء قداسة البابا يحمل خطا محدد المعالم ، وهو خدمة الكنيسة القبطية فى مصر وسائر دول العالم مؤمنا بأن الكنيسة حينما تخدم العالم لا تقف عند حدود معينة فالعالم كله هو حقلها المتسع " فى جميع الامم " ( مر 13 : 10 ) " والعالم أجمع " ( مر 16 : 15 ) . لقد أخذ قداسة البابا على عاتقه منذ البداية ، مسئولية العمل المسكونى وأمانة المناداة بوحدة الكنيسة على أساس الايمان الواحد ، ومفهوم أبائى أصيل للوحدة الكنسية من منطلق العمل الجاد لعودة الكنائس المتعددة الى الكنيسة الام الواحدة الجامعة الرسولية كما كانت قبل الانقسام . وقد صرح فى احدى عظاته الاسبوعية والتى كانت فى كنيسة مار جرجس الجيوشى بحى شبرا : " الكنيسة ظلت واحدة دون ان تظهر الطوائف لمدة خمسة قرون ، وان المرض ضرب الكنيسة مما تسبب فى انقسامها وذلك لأسباب عديدة منها اللغة، وحب الذات ، وهو المرض الاخطر الذى ضرب الكنيسة " . وقد أكد قداسته : ان الاصل فى الكنيسة هى (الوحدة ) مشيرا الى أن المحبة هى السبيل الوحيد لعودة الكنيسة الى وحدتها فى صورتها الجميلة . لا شك أن الهدف ليس مجرد العمل والسعى لتجميع الطوائف فى صورة اتحادات ، ولكن العمل على بناء اسس متينة وقوية لبيت الله المسكونى . من هذا المنطلق قام قداسة البابا بزيارات كثيرة متعددة لدول العالم " يجول يصنع خيرا "حاملا معه الفكر الرسولى الواحد ، وسط اختلاف وتباين الثقافات والمواهب ، ليسجل التاريخ خطوة جادة نحو العمل المسكونى ، مؤكدا بقوة ان المسيحيين فى أى مكان فى العالم ،
يعيشون بالمحبة كأساس لاهوتى وروحى لحياتهم وليس مجرد فضيلة من مجموعة فضائل ، وان الاختلافات الاهوتيه ينبغى ألا تؤثر على قوة المحبة بين سائر الكنائس المسيحية . من هذا المفهوم الرائع قام قداسة البابا تاوضروس الثانى بزيارة كرسى روما العريق ، كرسى القديس بطرس الرسول فى أول رحلة له خارج مصر بعد تواليه كرسى مار مرقس الرسولى ، ورد بابا روما الزيارة فى مشهد تاريخى مبهر أمام العالم كله ، فى سعى صادق وأمين نحو وحدة الكنائس . فى نفس السياق قام قداسة البابا بزيارة واستقبال عدد من رؤساء وزعماء دول العالم المختلفة وكذلك قادة الكنائس المتنوعة مؤكدا على أهمية وحدة كنائس العالم على أساس الايمان الواحد قولا وعملا ، وان الوحدة هى السبيل الاول والوحيد لقوة الكنيسة . وبدأ العمل الجاد ، ففى خلال فترة زمنية قصيرة قام قداسة البابا بأسفار عديدة شغلت القاءات المسكونية مساحة كبيرة منها ، من خلال مجالس الكنائس العالمى ، وكنائس الشرق الاوسط ، ومجلس كنائس افريقيا والكنائس القبطية المتفرقة فى الدول العربية وكذلك المجالس القومية لكنائس المسيح فى الولايات المتحدة وكندا واستراليا . كل هذا التحرك بغرض فتح الطريق والتمهيد
للوحدة والتغلب على الانقسام بين الكنائس الذى دام اكثر من 1500 عام . مؤكدا على ان وحدة البشر معا فى المسيح هى قصة عمل الله فى تاريخ الانسانية . وبالرغم من وجود بعض التيارات المقاومة والمعارضة والمعاندة ، فان قداسته يسعى بروح ايمانية عميقة نحو بناء اساس متين من حجارة حية فى بيت الله المسكونى بالانفتاح بعقلانية متأنية وواعية واجراء حوارات مسكونية لتقريب وجهات النظر حاملا مشعل الارثوذكسية بروح ايمانية قوية مبنى على مفهوم آبائى راسخ بغرض عودة الكنائس فى العالم الى الكنيسة الام الرسولية كما كانت قبل الانقسام . لقد صلى رب المجد يسوع ليلة آلامه صلاة وداعية طويلة تساقط خلالها من وجهه قطرات عرق كقطرات دم وجاءت كلماته بمثابة شعاع نور نافذا الى السماء طالبا : " أن يكون الجميع واحدا " ( يو 17 : 20 ) فان روح الله لا يستريح الا فى وحدة شعبه .
قداسة البابا منذ اليوم الاول من تواليه المسئولية وهو يواجه المعاندين والمقاومين ، ليس من خارج الكنيسة فقط بل من داخلها ، وهذا هو قدر كل من توكل اليه المسئوليات الكبيرة والخطيرة . ولكن قداسة البابا بكل الايمان والحكمة والرزانة لم ينظر الى كل تلك الضيقات ، انما تطلع بكل الثقة والرجاء الى الله الذى له كل القدرة على ان ينتصر على تلك الضيقات " انا قد غلبت العالم " . ويظل قداسته متطلعا مترقبا هذا الرجاء فى كل وقت وكل حين وفى كل موقف ... فالرجاء لا يفارقه ابدا ، هذا الرجاء هو الذى منح قداسة البابا سلاما فى القلب وطمئنينة وفرحا فى أعماقه . " فرحين فى الرجاء " ( رو 12 :12 ) . قلة من داخل الكنيسة من مراهقى صفحات التواصل الاجتماعى ، مغيبون ، بلا وعى ، ولم يدركوا او يفهموا معنى قول الكتاب : " كل شيئ مستطاع عند الله " وقول الرب : " لا أهملك ولا أتركك " . نسوا بجهلهم انه لا يجوز ان يقع رجل الله فى الياس او الضعف او صغر النفس ، لذلك احتمل قداسته كل الشدائد والضيقات التى تعرض لها خلال الست سنوات من الداخل او الخارج ... لم يهتز ... لم يضهف ... بل زاده الله قوة وحكمة وهدوء ورحمة وسلام . فوق كل ذلك احتمل كل أخطاء الآخرين يسامح ويصفح . ان المخطئ هو الضعيف الذى لم يضبط نفسه ... والمحتمل هو القوى الذى يغفر ويسامح ، عملا بقول معلمنا بولس الرسول: " يجب علينا نحن الاقوياء ان نحتمل ضعفات الضعفاء "( رو15: 1 )
ستة سنوات ... تشهد بقوة ، وبوضوح ، وبجلاء ان قداسة البابا تاوضروس الثانى ، رجل المواقف الصعبة على الاطلاق ... ستة سنوات تشهد له بانه انسان حكيم ، قوى فى فكره وفهمه ، له قدرة فائقة على فهم وادراك المواقف الصعبة والازمات العاتية ، له كفاءة عالية على الاستنتاج وسرعة البديهه على تحليل المواقف لا يهتز أمام أى تهديد أو مخاوف لأن ثقته فى الله غير محدودة . بهذا الرجاء نال قوة من عند الرب يغلب بها كل مقاوميه ومعانديه . ان الله لم يسمح لموسى ان يخشى من ملاقاة فرعون ( خر 4 ) ، ولم يسمح لأرميا ان يخاف لصغر سنه ، وقال ليشوع ابن نون فى حروبه : " لا يقف انسان فى وجهك كل أيام حياتك .. لا أهملك ولا أتركك .. تشدد وتشجع ولا ترهب ولا ترتعب لأن الرب معك . " ( يش 1 : 5 ) . قداسة البابا ... " يحاربونك ولا يقدرون عليك , لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك " ( أر 1 : 19 ) .