الأسقف ... إشكلية الإستقالة (2)
كمال زاخر موسى
١١:
٠٢
م +02:00 EET
الاثنين ١٢ نوفمبر ٢٠١٨
كمال زاخر
* الأسقف فى الكنيسة :
المسيح له المجد هو أسقف الكنيسة، الراعى والحارس والناظر، لهذا يقول القديس بطرس فى رسالته الأولى "لانكم كنتم كخراف ضالة، لكنكم رجعتم الان الى راعي نفوسكم واسقفها" (1بط 2: 25).
وقد أوصى السيد المسيح تلاميذه، قبيل صعوده، أن ينطلقوا للبشارة فى كل العالم "لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ».(أع 1 : 8)، لعلهم وقتها تذكروا ذلك اللقاء مع المسيح بعد قيامته، والذى سجله فيما بعد القديس متى فى بشارته "وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذًا فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ، وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا. فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً:«دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ.) (متى 28 : 16 ـ 20).
ولم يكن الأمر بغير ترتيب، بل كان محكوماً بقواعد ونظم سلمها رب المجد لتلاميذه فى كل مرة كان يأخذهم فيها الى لقاء منفرد، وهو نفس النسق الذى اتبعه تلاميذه ورسله فى كرازتهم، وسجله القديس بولس فى رسائله؛ فهو يخبر كنيسة كورنثوس (واما الامور الباقية فعندما اجيء ارتبها.) والقديس يوحنا فى رسالته الثالثة والموجهة إلى تلميذه "غايس" يذهب إلى نفس المعنى (وَكَانَ لِي كَثِيرٌ لأَكْتُبَهُ، لكِنَّنِي لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ بِحِبْرٍ وَقَلَمٍ. وَلكِنَّنِي أَرْجُو أَنْ أَرَاكَ عَنْ قَرِيبٍ فَنَتَكَلَّمَ فَمًا لِفَمٍ.) (3 يو 13 ـ 14)، ويؤكد القديس بولس أن هناك أمور تداولت بينه وبين تلاميذه الذين أقامهم أساقفة ومنهم تلميذه تيطس فى قوله له "من اجل هذا تركتك في كريت لكي تكمل ترتيب الامور الناقصة، وتقيم في كل مدينة شيوخا (قسوساً) كما اوصيتك. (تى 1 :5).
وفى كلمته الوداعية لكنيسة اسيا الصغرى قبل أن يبحر قاصداً أورشليم وقد استدعى معاونيه هناك من اساقفة وقسوس يقول (احترزوا إذاً لأنفسكم ولجميع الرعية التي اقامكم الروح القدس فيها اساقفة، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه) (أع 20 : 28) ، ويقدم كشف حساب عن خدمته لهم وبينهم متضمناً ما يجب أن يكونوا عليه كخدام كل فى رتبته.
وفى أكثر من موضع يؤكد أن الترتيب الكنسى وضعه الله نفسه وسلمه لهم؛ "فوضع الله اناسا في الكنيسة: اولا رسلا، ثانيا انبياء، ثالثا معلمين، ثم قوات، وبعد ذلك مواهب شفاء، اعوانا، تدابير، وانواع السنة." (1 كو 12 : 28)، "وهو اعطى البعض ان يكونوا رسلا، والبعض انبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين" (أف 4 : 11).
وقد حرص الرسول بولس فى رسائله إلى تلميذيه تيموثاوس وتيطس باعتبارهما اساقفة، على التشديد على صفات الأسقف الوجب توفرها :
"صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ: إِنِ ابْتَغَى أَحَدٌ الأُسْقُفِيَّةَ، فَيَشْتَهِي عَمَلاً صَالِحًا. فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ، بَعْلَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، صَاحِيًا، عَاقِلاً، مُحْتَشِمًا، مُضِيفًا لِلْغُرَبَاءِ، صَالِحًا لِلتَّعْلِيمِ،غَيْرَ مُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَلاَ ضَرَّابٍ، وَلاَ طَامِعٍ بِالرِّبْحِ الْقَبِيحِ، بَلْ حَلِيمًا، غَيْرَ مُخَاصِمٍ، وَلاَ مُحِبٍّ لِلْمَالِ، 4يُدَبِّرُ بَيْتَهُ حَسَنًا، لَهُ أَوْلاَدٌ فِي الْخُضُوعِ بِكُلِّ وَقَارٍ. وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟ غَيْرَ حَدِيثِ الإِيمَانِ لِئَلاَّ يَتَصَلَّفَ فَيَسْقُطَ فِي دَيْنُونَةِ إِبْلِيسَ. وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ فِي تَعْيِيرٍ وَفَخِّ إِبْلِيسَ."(1تى 3 : 1 ـ 7).
"مِنْ أَجْلِ هذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ تُكَمِّلَ تَرْتِيبَ الأُمُورِ النَّاقِصَةِ، وَتُقِيمَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شُيُوخًا (قسوساً) كَمَا أَوْصَيْتُكَ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ بِلاَ لَوْمٍ، بَعْلَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، لَهُ أَوْلاَدٌ مُؤْمِنُونَ، لَيْسُوا فِي شِكَايَةِ الْخَلاَعَةِ وَلاَ مُتَمَرِّدِينَ. لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ كَوَكِيلِ اللهِ، غَيْرَ مُعْجِبٍ بِنَفْسِهِ، وَلاَ غَضُوبٍ، وَلاَ مُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَلاَ ضَرَّابٍ، وَلاَ طَامِعٍ فِي الرِّبْحِ الْقَبِيحِ، بَلْ مُضِيفًا لِلْغُرَبَاءِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُتَعَقِّلاً، بَارًّا، وَرِعًا، ضَابِطًا لِنَفْسِهِ، مُلاَزِمًا لِلْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِي بِحَسَبِ التَّعْلِيمِ، لِكَيْ يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَعِظَ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ الْمُنَاقِضِينَ."(تى1: 5 ـ 9)
ولم يخرج التقليد الكنسى فى كل الكنيسة عن هذه المحددات حتى بعد الإنشقاق (ما بعد خلقيدونية 451م أو بين الكنائس الخلقيدونية 1054م)، وقبله عندما انتشرت ظاهرة انتقال الإكليروس (الأسقف والقس والشماس) من الأماكن التى أقيموا عليها لأماكن أخرى، بتعدد الأسباب، جاء قرار مجمع نيقية (325م) ليحسم ويمنع هذا الإنتقال بنص القانون 15 (أنه يسبب ما ينشأ من الخلاف والتشويش البالغين قد استحسنا منع العادة التى شاعت فى بعض الأماكن المخالفة للقانون الرسولى، فلا يسمح بعد الآن لأسقف أو قس أو شماس أن ينتقل من مدينة إلى أخرى. وإذا حاول أحد الإكليريكيين (الإكليروس)، بعد صدور أمر المجمع هذا، القيام بعمل من هذا النوع وأصر على المخالفة فكل ما يقوم به يعد لغواً باطلاً، وأما هو فيجب أن يعود إلى الكنيسة التى أختير لخدمتها أسقفاً أو قساً).
ويتأكد الأمر مجدداً فى مجمع القسطنطينية المسكونى (381م) بنص القانون (2) (لا يجوز للأساقفة أن يتخطوا حدود ابرشياتهم ويذهبوا إلى كنائس خارج سلطتهم أو يحدثوا تشويشاً، بل على اسقف الإسكندرية (البطريرك) حسب القوانين أن يدير شئون كل الكنائس فى مصر وحدها، واساقفة الشرق يديرون كنائس الشرق لا غير... وليدبر اساقفة آسية مصالح الكنيسة فى آسية ...الخ).(راجع فى ذلك مجموعة الشرع الكنسى).
* الأسقف والإستقالة :
يبقى أن ترتيب اختيار واقامة الأسقف يقع فى دائرة ادارة الكنيسة أو بحسب التعبير الكنسى (التدبير)، ويمكن للكنيسة أن تتحرك فيه بحسب احتياجات العصر دون الإخلال بالضوابط المتعلقة بشخص الأسقف، ولذلك فقد استقرت الكنيسة فيما بعد ظهور الرهبنة، على اختياره من بين المتبتلين، من طغمة الرهبان بعد أن وجدت فيهم، بحسب النموذج الرهبانى المثالى، تفرغاً والتزاماً وقدرات روحية وزهداً فى ممتلكات العالم. أى أنها تملك أن تتجاوز عن شرط كتابى وفقاً لمستجدات واقعها طالما كان الهدف صالح الرعية وابديتها، واجتهد البعض فى أن يئول المعنى إلى كون الأسقف تزوج الكنيسة استناداً إلى ما قال به بعض أباء الكنيسة المعتبرين فى قرونها الأولى، لكن قانوناً بهذا لم يصدر عن المجامع المسكونية، وجاء حظر الانتقال من ايبارشية إلى أخرى، بحسب قوانين المجامع، درءاً لما يترتب عليه من صراعات، خاصة عندما يكون انتقالاً من ايبارشية صغيرة إلى ايبارشية كبيرة، ويقصد بها الكرسى الكبير أو البطريركية.
لذلك يمكننا مراجعة ما استقر من عرف في الذهنية القبطية ببقاء الأسقف في موقعه منذ اقامته او تجليسه او رسامته وحتي مماته، وهو امر راجعته كنائس تقليدية رسولية وعدلت فيه - استناداً الي رؤية المجامع المسكونية قبل الانشقاق - بالسماح بتقاعد أو استقالة الاسقف او المطران (المتربوليت) او البطريرك وحتي البابا.، مع احتفاظهم بكهنوتهم، وأبرز مثالين معاصرين المطران جورج خضر بكنيسة الروم الأرثوذكس (2018)، والبابا بندكتس السادس عشر بابا الكنيسة الكاثوليكية (28 فبراير 2013)، وقد خلفه فى حياته البابا فرانسيس الأول.
وفي مصر نذكر استقالة الأنبا اسطفانوس الثاني بطريرك الأقباط الكاثوليك (1مايو2006) وكذلك البطريرك الذي خلفه الانبا انطونيوس نجيب فقد استقال أيضاً (2013)، وقد خلفه ـ فى حياته ـ البطريرك الأنبا ابراهيم اسحق.
وعلى مستوى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تُصادفنا استقالة الأنبا مينا مطران جرجا، والأنبا امونيوس اسقف الأقصر، والأنبا متياس اسقف المحلة، وثلاثتهم فى حبرية قداسة البابا شنودة الثالث، على اختلاف الأسباب والملابسات، فيما شهدت حبرية قداسة البابا تواضروس استقالة الأنبا إبرآم اسقف الفيوم (وعدوله عنها)، واستقالة الأنبا سوريال اسقف ملبورن (لم تحسم بعد).
اللافت أن استقالة الأسقف تعرضت لها الكنيسة قبل الإنشقاق، فى واقعة سجلتها كتب القانون الكنسى، وانتهت فيها إلى رأى محدد، استأذن القارئ فى نقلها كما وردت فى كتاب "مجموعة الشرع الكنسى"، وقد جرت أحداثها فى القرن الخامس، والنص هو رسالة من مجمع أفسس المسكونى ـ الذى شاركت فيه كنيسة الأسكندرية وقبلت به ـ والرسالة مرسلة إلى مجمع كنيسة (بمفيلية) المقدس، بشأن قضية المتروبوليت (المطران) افسطاثيوس:
[جاء فى الكتب الموحى بها من الله "اعمل كل شئ بمشورة" (أمثال سيراخ) فعلى الذين اسعدهم الحظ أن يُقبلوا فى الخدمة الكهنوتية أن يدرسوا ويفحصوا بعناية ما يجب عليهم القيام به. وبذلك يتمكنون من قضاء حياتهم جاعلين أعمالهم منظمة حسب الرجاء، وسائرين دوماً إلى الأمام كأن ريحاً موافقة تدفعهم إلى المرفأ الأفضل، وهكذا يصدق القول وتظهر حكمة العمل بموجبه.
على أنه فى بعض الأحيان يستولى العقل همٌّ كثيف لا يُحتمل يضع عليه غشاوة سميكة ويحول دون انتهاجه سبيل الواجب ويقنعه بأن كل ما يرى أنه من واجبات الخدمة هو مؤذ له بالطبع، وقد رأينا شيئاً من هذا قد أحاق بالجزيل الإحترام والوافر التقوى الأسقف افسطاثيوس، فقد ظهر من الشهادات أن سيامته كانت قانونية، ولكنه كما قال إذ قد انزعج كثيراً من تصرفات بعض الأشخاص وصادفته مشاكل لم يكن يتوقعها، فعلى الرغم من أنه كان فى وسعه أن يرد على ما إتهمه به مقاوموه فقد أبى لعدم خبرته فى تصريف الأمور وضعف عزيمته أن يجابه الصعوبات التى اعترضته وقدم كتاب استقالته بصورة يجهلها مع أنه كان يجدر به وقد أؤتمن على الخدمة الكهنوتية أن يواظب عليها ينشاط روحى وأن يتجرد لمقاومة الإضطهادات واحتمال المشقات بسرور كمن يأخذ أجرة، أما وقد برهن عن نفسه أنه عاجز فعلاً عن احتمال نصيبه لا عن جبن وكسل بل عن عدم اختبار، وهكذا رأى قداستكم أن الضرورة تدعوكم لأن ترسموا أخانا وزميلنا الجزيل الإحترام الوافر التقوى الأسقف ثيودورس للعناية بالبيعة، إذ لا يحسن أن تبقى مترملة وأن تُهمل خراف المخلص مدة بدون راع.
أما وقد جاء الآن (الأسقف المستقيل) باكياً لا مخاصماً للأسقف الوافر التقوى ثيودورس، ولا منازعاً إياه على كرسيه فى الكنيسة، لكنه فى الوقت نفسه يطلب الإحتفاظ بدرجته ولقبه كأسقف لا غير، فتوجعنا كلنا لهذا الرجل الشيخ فى حزنه ورثينا لدموعة كأنها دموعنا، واجتهدنا فى البحث فيما إذا كان افسطاثيوس المذكور خُلع خلعاً شرعياً أو إذا كان فى الحقيقة قد حكم عليه بسبب اتهامات باطلة ووشايات كاذبة اساء فيها البعض إلى سمعته، ولما تبين لنا أن لا شئ من هذا النوع قد حصل وكل ما هنالك أن استعفاءه قد حسب عليه زلة.
لذلك فنحن لا نلوم قداستكم بوجه من الوجوه لاضراركم لأن تقيموا فى مكانه الجزيل الإحترام الأسقف ثيودورس المار ذكره.
ولكن لما لم يكن هنالك ما يوجب ادانة الرجل بعجزة فى تصريف الأمور وكانت الشفقة واجبة نحو ذلك الرجل الشيخ الذى مر عليه زمن طويل وهو بعيد عن المدينة التى ولد فيها وعن موطن آبائه، لأجل ذلك كله قد أصدرنا الحكم شرعاً وبدون معارضة بأن يظل متمتعاً بالإسم والكرامة والشركة كأسقف ولكن على شرط أن لا يقوم بخدمة كنسية بحسب سلطته الشخصية، وأن لا يُقدِم على سيامة أحد، إنما يجوز له القيام يذلك كمساعد بطلب من أخيه وزميله فى الخدمة الأسقف عملاً بشعور العطف والمحبة فى المسيح.
على أنه إذا شئتم أن تمنحوه ما هو أفضل من ذلك الآن أو فيما بعد فالمجمع المقدس (مجمع أفسس المسكونى) لا يرى فى ذلك من مانع.].
وأيا كان مصير استقالة اسقف ملبورن فهى قد اثارت العديد من التساؤلات حول كنائس المهجر وهو ما سنعرض له فى المقال القادم.